نظرية المؤامرة وواقع الدور الصهيوني

الصورة: ماركوس وولف، المسؤول السابق عن جهاز المخابرات في ألمانيا الشرقية

صبحي غندور‏

تحميل "نظرية المؤامرة" وحدها مسؤولية المصائب والأزمات في المنطقة العربية، هي مقولة خاطئة ‏ومُضلّلة، فما يحدث فعلاً من "مؤامرات خارجية" يقوم على استغلال وتوظيف خطايا وأوضاع داخلية. لكن ‏أيضاً، هو "قصر نظر" كبير، وجهل متعمّد أحياناً، لدى من يستبعد دور ومصالح "الخارج" في منطقة تشهد ‏تحوّلاتٍ سياسية وأمنية مهمّة لعقودٍ طويلة من الزمن، وهي منطقة الثروات الطبيعية والموقع الإستراتيجي ‏والأماكن المقدسة لكلّ الرسالات السماوية.‏

 

هناك في الرسالات السماوية حكمةٌ هامّة من سيرة آدم عليه السلام، فإغواء الشيطان له ولحوّاء كان ‏‏"مؤامرة خارجية"، لكن ذلك لم يشفع لهما بألا يكون عليهما تحمّل المسؤولية وتلقّي العقاب. العرب يعيشون ‏على أرض الرسالات السماوية ولم يتعلّموا هذا الدرس الهام بعد، رغم وجود شياطين صغرى وكبرى داخلهم ‏ومن حولهم!‏

صحيحٌ أنّ هناك قوى وأجهزة أمنية لقوى إقليمية ودولية عديدة تتحرّك في بلدان المنطقة لخدمة غايات ‏سياسية خاصّة، لكن من غير الإنصاف تجاهل خصوصية العامل الصهيوني في التأزيم الأمني والسياسي ‏لعدّة دول عربية، وفي مراحل زمنية مختلفة.‏

فهل يعقل مثلاً تناسي ما قام به الكيان الصهيوني في سنوات عمره الأولى منذ 70 عاماً من تفجير ‏مؤسّسات أميركية وبريطانية في القاهرة ثمّ انكشاف ذلك لاحقاً فيما عُرف باسم فضيحة "لافون"، حيث ‏استهدف الكيان تحريض الأميركيين والبريطانيين على مصر آنذاك؟

وهل يجوز تناسي ظاهرة كوهين العميل الصهيوني الذي استطاع الوصول إلى مواقع رسمية سوريّة ‏مسؤولة في مطلع الستّينات من القرن الماضي؟

وهل نسي اللبنانيون والفلسطينيون الأعداد الكبيرة من العملاء الصهاينة الذين كشفوا عن أنفسهم مع ‏الاجتياح الصهيوني عام 1982، وبينهم من كان مرافقاً لياسر عرفات في مقرّه الأمني في بيروت، وآخر كان ‏معروفاً باسم "أبو الريش" يتسكّع في شوارع بيروت ويتظاهر بأنّه إنسان مشرّد ومختل عقلياً فإذا به عقيد ‏قام بترشيد القوات الصهيونية في بيروت حينما دخلتها في أيلول/ سبتمبر 1982، وكان دليلها ‏لمنازل ومكاتب قيادات فلسطينية وسوريّة في منطقة رأس بيروت؟!، إضافةً لعشرات من العملاء الذين ‏تبرّأت منهم أحزاب لبنانية ومنظمّات فلسطينية وجرى نشر أسمائهم في الصحف اللبنانية أواخر العام ‏‏1982.‏

فإذا كان الكيان الصهيوني وأجهزته الأمنية يتسلّل إلى أهمّ المواقع السياسية والأمنية في دول كبرى، ومنها ‏الحليف الأكبر لها أميركا، فلِمَ لا يفعل ذلك مع أعدائه الجيران له؟!

فرغم كلّ العلاقات الخاصّة بين أميركا ‏و (إسرائيل)، فإنّ واشنطن رفضت الإفراج عن جوناثان بولارد، الأميركي اليهودي الذي قضى عقوبة 30 سنة ‏في السجن منذ منتصف الثمانينات بتهمة التجسّس لتل أبيب، ثمّ جرى الإفراج عنه في العام 2015، إضافةً ‏إلى الكشف عن عملاء آخرين كانوا يعملون لصالح (إسرائيل) في مواقع أمنية أميركية، ومن خلال علاقتهم ‏مع منظمة "الإيباك"، اللوبي الصهيوني المعروف بواشنطن.‏

ثمّ ماذا عن الدكتور ماركوس وولف الذي كان مسؤولاً عن جهاز الاستخبارات العسكرية في ألمانيا ‏الشرقية الشيوعية، لكن بعد انهيار النظام الشيوعي فيها تبيّن أنّه كان عميلاً لـ(إسرائيل)، وهو الذي كان يشرف ‏في المعسكر الشيوعي على العلاقات الخاصّة مع منظمّات وأحزاب في دول العالم الثالث ومنها المنطقة ‏العربية؟!

فماذا يمنع أن تكون المخابرات الصهيونية قد جنَّدت أيضاً مجموعة من العملاء المزدوجين (مثل حالة ‏ماركوس وولف) من الشيشان وصولاً إلى نيجيريا، مروراً بمعظم الدول العربية، لتولّي قيادة منظمّات تحمل ‏أسماء "إسلامية"، تماشياً مع مرحلة ما بعد "الحرب الباردة" ولخدمة الصراع الجديد المصطنع بين الغرب ‏و"العدو الإسلامي"؟!

وهل كان باستطاعة العدو الصهيوني أن يغتال خليل الوزير في تونس وكمال ناصر وكمال عدوان في بيروت ‏وغيرهم من القيادات الفلسطينية في أماكن أخرى لو لم يكن لديها العديد من العملاء والمرشدين في هذه ‏الدول؟!

من السذاجة طبعاً تجاهل كلّ ذلك واعتبار أنّ (إسرائيل) هي طرف محايد ومراقب لما يحدث في جوارها ‏المعادي لها، بل سيكون من السخف الاعتقاد بأنّها قبلت بروح رياضية هزيمتها العسكرية في لبنان ‏وبأنّها سحبت قواتها من أراضيه عام 2000 دون أيّة نيّة لديها بالتدخّل بعد ذلك في الشؤون اللبنانية أو في ‏معاقبة المقاومة اللبنانية ومن دعمها على المستوى الإقليمي!

فإجبار العدو للمرّة الأولى في تاريخه على ‏الانسحاب من أرضٍ احتلها، بلا أيّ مفاوضات أو اتفاق أو شروط، لا يمكن أن يمرّ بلا عقاب ولو بعد ‏حين.

أوَلم يعطِ هذا الانسحاب المذلّ لـ(إسرائيل) وجيشها وقادتها الذي جرى بفعل المقاومة المسلّحة للاحتلال ‏نموذجاً أمكن الاحتذاء به في الأراضي الفلسطينية المحتلّة ممّا ساعد على انطلاق الانتفاضة الفلسطينية ‏الثانية في العام 2000، وبعد أشهر قليلة من انتصار مقاومة لبنان على المحتلّ الصهيوني؟!

إنّ الصهاينة، بلا شكّ، أحسنوا توظيف الأخطاء الرسمية العربية والإقليمية، كما أحسنوا توظيف ‏الظروف الدولية والمشاريع الأميركية في المنطقة، لكن لـ(إسرائيل) مشاريعها الخاصّة التي تتجاوز أجندة الدول ‏الكبرى، فهي لم ولن تتراجع عن مشروعها التفكيكي للبلاد العربية على أسس طائفية ومذهبية وإثنية.

‏ففي الحالة اللبنانية، نجد أنّ (إسرائيل) لعبت دوراً هاماً في إشعال الحرب الأهلية عام 1975، لكنّها فشلت في ‏اجتياحها للبنان عام 1978 عندما فشل مشروعها في إقامة "دولة جنوب لبنان الحر" بقيادة عميلها الضابط ‏في الجيش اللبناني سعد حداد. ولم ينهَر الكيان اللبناني آنذاك. ثمّ كان ذلك حافزاً لمشروع صهيوني أكبر ‏باحتلال أوّل عاصمة عربية (بيروت) وحوالي ثلثي الأراضي اللبنانية عام 1982، وبارتكاب مجازر في ‏مخيّمات فلسطينية، وبإثارة فتنة حرب الجبل عام 1983، واستخدام كل أنواع التدمير لمقوّمات الحياة ‏اللبنانية إلى حين انتصار المقاومة عام 2000. ثمّ القيام بعدوان كبير على لبنان في صيف عام ‏‏2006 والذي كانت أحد أهدافه تفجير الساحة الداخلية اللبنانية. فلِمَ هذا الاستبعاد الآن لأيِّ دورٍ صهيوني ‏فيما يحدث في المنطقة العربية، سياسياً وأمنياً، وبما يحدث من حروب وأزمات في المحيط العربي ومع ‏جواره الإسلامي؟!

نعم، هناك عرب ومسلمون يقومون الآن بخوض معارك لصالح "أهداف صهيونية"، عن قصد أو بغير ‏قصد، فهم عمليّاً يحقّقون ما يندرج في خانة "المشاريع الصهيونية" للمنطقة من تقسيم طائفي ومذهبي وإثني ‏يهدم وحدة الكيانات الوطنيّة ويقيم حواجز دم بين أبناء الأمّة الواحدة. أليس مشروعاً صهيونياً تفتيت المنطقة ‏العربيّة إلى دويلات متناحرة؟

أمَا هي بمصلحة صهيونية كاملة نتاج ما جرى ويجري في العراق وسوريا من ‏وجود جماعات "القاعدة" و"دويلة داعش" والسعي لهدم وحدة الأوطان والشعوب؟!، وما حدث قبل ذلك في ‏الحرب الأهلية اللبنانية، ثمّ الحرب الأهلية في السودان التي انتهت بفصل جنوبه عن شماله، ثمّ ما حدث ‏ويحدث الآن في بلدان عربية أخرى؟! ‏

إنّ هذا "الوباء الصهيوني" التقسيمي لا يعرف حدوداً، كما هي (إسرائيل) بلا حدود، وكما هم ‏العاملون من أجلها في العالم كلّه. ‏

في شباط/ فبراير 1982، نشرت مجلة "اتجاهات -كيفونيم" التي تصدر في القدس، دراسة للكاتب ‏الصهيوني أوديد بينون (مدير معهد الدراسات الإستراتيجية) تحت عنوان "إستراتيجية لإسرائيل في ‏الثمانينات"، وجاء فيها "إنّ العالم  العربي ليس إلا قصراً من الأوراق بنته القوى الخارجية في العشرينات ‏‏(...) وأنّ هذا هو الوقت المناسب لدولة (إسرائيل) لتستفيد من الضعف والتمزّق العربي لتحقيق أهدافها ‏باحتلال أجزاء واسعة من الأراضي المجاورة لها، وتقسيم البعض الآخر إلى دويلات على أساس عرقي ‏وطائفي". ثمّ تستعرض دراسة أوديد بينون صورة الواقع العربي الراهن، والاحتمالات الممكن أن تقوم بها ‏إسرائيل داخل كل بلدٍ عربي من أجل تمزيقه وتحويله إلى شراذم طائفية وعرقية.‏

ما سبق عرضه عن مخطّطات صهيونية وممارسات (إسرائيلية) في المنطقة، لا يعني أننا – كعرب- ‏ننفّذ ما يريد الصهاينة أو أنّنا جميعاً أدوات وعملاء لـ(إسرائيل)! بل الواقع هو أنّنا ضحيّة غياب التخطيط ‏العربي الشامل مقابل وجود المخطّطات الصهيونية والأجنبية الشاملة. لكن يبقى السؤال الهام: هل يجوز أن ‏تكون شعوب الأوطان العربية مطيّةً لتنفيذ هذه المشاريع الصهيونية والأجنبية، وأين هي عناصر قوّة ‏المناعة في المجتمعات العربية؟!

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :133,413,449

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"