مشروع تشييع بغداد، إلى أين؟

ملاحظة من هيئة تحرير وجهات نظر:

نشر هذا المقال لأول مرة قبل سنتين، ولأهميته المتزايدة في الوقت الحاضر، إرتأينا إعادة نشره مجدداً.

مع التقدير 

 

 


مشروع تشييع بغداد.. إلى أين؟

 

عبد الحميد الكاتب

منذ أن طرد السلطان العثماني مراد الرابع الصفويين من مدينة بغداد عام 1638م، لم يتمكن الشيعة من السيطرة عليها، لذا فإن الاحتلال الأميركي (نيسان/ أبريل 2003) والذي مهّد الطريق لحكم الشيعة للعراق يعد إنجازاً كبيراً للمذهب الشيعي، وبناء على هذا فإن مشروع تشييع بغداد سلوك طبيعي لنظام إيران لتثبيت أقدام المذهب في العاصمة التي ظلت عصية على الشيعة.

 

بغداد سنية

منذ أن بنيت بغداد في عهد الخليفة المنصور عام (145هـ) أصبحت العاصمة السياسية والقبلة العلمية للعالم الإسلامي والحضارة السنية، ورغم ما مرّت به بغداد من نكبات كثيرة على يد المغول والتركمان الشيعة " الصفويين" إلا أن ذلك لم يغير من حال بغداد فقد بقيت عامرة بمساجدها ومدارسها لا يعلو فيها فوق الصوت السني صوت، برغم وجود غير السنة فيها.

لكن بدأ الحال يتغير مع سقوط الملكية وقيام الجمهورية عام 1958 حيث عمل الرئيس عبد الكريم قاسم على منح المزارعين الشيعة أراض سكنية في بغداد (حي الشعلة ومدينة الثورة حالياً) مما زاد من نسبة الشيعة فيها، ومع ذلك بقي السنة محافظين على أغلبيتهم فيها، حيث تقدر إحصاءات عام 1997 نسبة السنة بأكثر من 56 % .

 

ملامح تشييع بغداد

مشروع تشييع بغداد الذي بدأ منذ يوم الاحتلال الأول (9 نيسان/ أبريل 2003) لا يودّ كثير من النخب العربية والإسلامية الاعتراف بخطورته والاستعداد لمواجهة آثاره فضلاً عن التصدي لمحاوله إتمامه وإنجازه، حيث سقطت الدولة وبقي "العرب السنة" يواجهون العواصف الشيعية والأميركية دون أية مرجعية دينية أو سياسية تقودهم نحو بر الأمان، فالنظام البعثي السابق منع ظهور أية قيادة سنية (سياسية أو دينية أو عشائرية) في مقابل ذلك كانت إيران طيلة ثلاثين عاماً تعد رجالها ومشروعها للهيمنة في ذات يوم!!

 من ملامح تشييع بغداد يمكن أن نعدد ما يلي:

 * سيطرة الشيعة عقب الاحتلال مباشرة على كثير من الأبنية والمنشآت الحكومية وقصور النظام البعثي في بغداد، وذلك بعد عمليات واسعة من السرقة والنهب، وتحويلها من أبنية للحكومة السابقة إلى مقرات للأحزاب السياسية والجمعيات الدينية والثقافية والخيرية الشيعية دون سند قانوني مثل: مكاتب الشهيد الصدر، مكاتب المراجع الدينية، مكاتب الأحزاب السياسية.

* ومن ذلك أيضاً أن تحولت بعض المؤسسات الرسمية لتكون تحت هيمنة وسيطرة فريق شيعي بعينه وليست تحت سيطرة الحكومة، ومنها:

- الجامعة المستنصرية شرق بغداد والتي أصبحت تعد من أهم معاقل الصدريين.

- جامعة البكر للدراسات العسكرية والتي أصبحت تابعة لحزب الدعوة.

- مطار المثنى المعقل الأول لحزب الدعوة منذ الأيام الأولى للاحتلال.

- معسكر الرشيد شرق بغداد الذي سيصبح مجمعاً سكنيا ضخماً للشيعة.

* تقاسم الأحزاب والتيارات الدينية الشيعية النفوذ والهيمنة على مناطق واسعة في بغداد (جيش المهدي في مدينة الصدر والشعلة والحرية والكاظمية، المجلس الأعلى في مناطق الجادرية والكرادة حيث أوجد منطقة محصنة تابعة له، حزب الدعوة في مطار المثنى والمنطقة الخضراء).

* تكوين ميليشيات عسكرية رسمية للشيعة في بغداد وذلك مع بدء تشكيل القوات المسلحة والأجهزة الأمنية في حكومة أياد علاوي عام 2004، وقد انخرط كثير من أبناء محافظات الجنوب والوسط في صفوف القوات العاملة في بغداد.

* مع تسلّم إبراهيم الجعفري (رئيس حزب الدعوة آنذاك) رئاسة الحكومة في نيسان/ أبريل 2005، بدأت حرب الاجتثات والتطهير ضد "العرب السنة" التي قادتها وزارة الداخلية برئاسة بيان جبر الزبيدي المعروف باسم صولاغ (القيادي في المجلس الأعلى). وقد أسفرت الحملات الأمنية وعمليات فرق الموت (القوات الخاصة في وزارة الداخلية) عن قتل واعتقال وتهجير الآلاف من أبناء السنة من بغداد.

 وساهمت عملية تفجير مرقد الشيعة في سامراء (شمال بغداد) في 22 شباط/ فبراير 2006 لتكون بمثابة ساعة الصفر لعملية الاكتساح الشيعي الشامل للعاصمة، حيث تولت ميليشيا الصدر (جيش المهدي) عمليات حرق المساجد ومهاجمة الأحياء وتهجير أهلها وتنفيذ الإعدامات في الشوارع والساحات العامة وإقامة نقاط التفتيش الوهمية، وتحولت مدينة الصدر (شرق بغداد) إلى أكبر قاعدة لفرق الموت الصدرية، والتي ضمت كذلك معتقلات للمختطفين السنة لا سيما في الحسينيات وبعض الدور السكنية!

واستمرت الحرب التي يقودها جيش المهدي على الأحياء السنية في بغداد عامين كاملين (2006 - 2007) تمكن فيها من فرض سيطرته على معظم أحياء بغداد بجانبيها الشرقي والغربي.

 وأصبح جيش المهدي القوة الأولى في بغداد ومعظم محافظات الجنوب والفرات الأوسط، والشيعة يعترفون بفضل الميليشيا الصدرية على الطائفة ويقولون: لولاه لم يبق شيعي واحد في بغداد.

- إذ في الجانب الشرقي لبغداد (الرصافة) تمكن الشيعة بقيادة جيش المهدي والقوات الحكومية من فرض سيطرتهم على معظم الأحياء المختلطة بعد تهجير السنة منها، ولم يبق لأبناء السنة سوى (منطقة الأعظمية، منطقة زيونة، وبعض المناطق الصغيرة كالفضل "الحي القديم وسط بغداد"، وبعض مناطق حي "الصليخ").

- أما بالجانب الغربي (الكرخ) والذي شهد أكبر عملية تهجير في تاريخ العاصمة، فقد سيطر الشيعة على أحياء منطقة الحرية شمال غرب بغداد بعد تهجير الآلاف من عوائل "المشاهدة" السنية وقتل المئات منهم، كما سيطروا على معظم حي العامل، وحي الوشاش، وبعض مناطق حي الغزالية وتمكنوا من الزحف على حي العدل، ولهم نفوذ في بعض أحياء المنصور والجامعة والقادسية وغيرها من معاقل السنة في الكرخ، ونقل بيان لجبهة التوافق السنية (رقم 49) عن أحد السياسيين الشيعة قوله: "لم يبق في بغداد من العرب السنة سوى 15% ".

* أما في عهد نوري المالكي فتعززت القبضة الأمنية للشيعة على بغداد عام 2007 بالتزامن مع تعاظم رغبة المالكي بالسيطرة على كافة مفاصل الدولة السياسية والأمنية، فنشأت تشكيلات عسكرية جديدة تابعة له تعمل في بغداد وتمارس نفوذها في المحافظات السنية، ومن هذه التشكيلات: "قوات عمليات بغداد"، ولواء (56 المعروف بلواء بغداد) ولواء (54) و"جهاز مكافحة الإرهاب" وغيرها من الأجهزة المرتبطة بمكتب القائد العام للقوات المسلحة، وتحتفظ هذه التشكيلات بمقرات ومعتقلات في المنطقة الخضراء ومطار المثنى، وقد كشف عن بعض الانتهاكات التي طالت المعتقلين السنة (من أبناء الموصل) في نيسان/ أبريل 2010.

* أما ضواحي العاصمة وهي الحزام السني المحيط ببغداد فقد تعرضت لحملات شيعية كثيرة منذ نيسان/ أبريل 2005 بهدف تهجيرهم وإضفاء الطابع الشيعي على المنطقة.

- حيث تم افتعال أزمة الرهائن الشيعة في منطقة المدائن (سلمان باك) جنوب شرق بغداد، وهي منطقة سنية ومعقل مهم للمقاومة، ومما يزيد رغبة الشيعة في الاستيلاء على هذه المنطقة وجود مقام الصحابي سلمان الفارسي، المقدس عندهم.

- كما تعرضت الضواحي الشمالية الشرقية للعاصمة لهجمات كثيرة من قبل جيش المهدي وقوات الحكومة لا سيما الميليشيات التابعة لعشيرة البوعامر في الراشدية، ولا تزال مناطق الطارمية والراشدية والتاجي مستهدفة من قبل القوات الرسمية بالاعتقالات والاغتيالات.

- وإلى الغرب من بغداد حيث قضاء أبو غريب السني، والذي يتمركز فيه أسوأ الألوية العسكرية التابعة للجيش العراقي (لواء 24) التابع للفرقة السادسة/ الجيش العراقي، والذي يعرف بلواء المثنى منذ عام 2005.

حيث عُرف هذا اللواء بطائفيته فعناصره من أبناء محافظات الجنوب أو من الموالين لمقتدى الصدر، وهو يمارس دور الميليشيا الصدرية في تلك المناطق حيث يقوم باعتقالات عشوائية جماعية لأبناء القضاء في مختلف النواحي، فضلاً عن عمليات التعذيب للمعتقلين، والإهانات "الطائفية"، ويقوم بين الحين والآخر بإعدام قرويين في تلك النواحي بشكل جماعي وقد تكرر هذا عدة مرات خلال عامي 2009، 2010.

وعلى إثر الاعتقالات والتضييق الممنهج هاجرت المئات من العوائل السنية حتى أصبحت هذه الظاهرة ملحوظة ومحل اهتمام المتابعين للشأن السني في العراق.

- وإلى الجنوب الغربي حيث قضاء المحمودية وتوابعه، فقد تعرضت تلك النواحي لمجازر وحملات تطهير ديني لا مثيل لها، وكشف النقاب في ربيع عام 2008 عن عدد من المقابر الجماعية للضحايا السنة في منطقة المحمودية، أما مناطق اللطيفية واليوسفية وغيرها فتعرضت لحملات شرسة منذ استلام الجعفري منصب رئاسة الوزراء وطالتها أولى الحملات الأمنية (عملية البرق)، وقد توافرت أسباب كثيرة لينصبّ البلاء الشيعي على تلك المناطق منها (شراسة أبناء تلك المناطق ضد القوات الأميركية وقوات جيش المهدي، وجود تنظيم القاعدة الذي فاقم الأمر وأصبح يلاحق الجماعات الجهادية ويشن حربا ضد مخالفيه من السنة، وقوع هذه المناطق على طريق الزوار الشيعة لكربلاء).

 

بغداد.. الحسينية الكبرى

"الحسينية" هي المعبد الشيعي حيث تقام فيها الطقوس والشعائر الدينية، وغالباً ما ترفع عليها رايات ملونة وصور الأئمة الروحيين للشيعة، وقد وصف أحد القادمين من بغداد بأنها "حسينية كبرى" حيث تنتشر بكثافة الصور المفترضة للحسين وعلي والأئمة الإثني عشر، وصور زعماء الشيعة السياسيين ومراجع المذهب، والأعلام السوداء والحمراء والخضراء، - فالعاصمة السنية سابقاً- تعيش يومياً أجواء الطقوس الكربلائية العاشورائية.

ومنذ الأشهر الأولى للاحتلال أصبح من المألوف لدى البغداديين رؤية صور زعماء الشيعة (خميني، الصدر، السيستاني، محمد باقر الحكيم) وأعلامهم الملونة (لا سيما السوداء) مرفوعة في كثير من مناطق بغداد، وتعززت الصورة الشيعية لبغداد بعد حملات التهجير والتطهير الديني (2006 - 2007).

وتظهر قوة الشيعة وسيطرتهم في بغداد في مواسم العزاء (يوم عاشوراء، الأربعينية، ذكرى موسى الكاظم، ذكرى مقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه) وينتشرون في كل أنحاء العاصمة ويقيمون خيم العزاء وموائد الطعام والشراب، ويضطر بعض السُنة إلى مجاراتهم وتعليق الأعلام السوداء وإظهار الحزن وإعداد الطعام. حيث تخصص الدولة مبالغ طائلة لتنظيم هذه الطقوس وحماية الزائرين، وتُعطل الحياة العامة والدوائر الرسمية في أيام الزيارة.

وجرى بناء الكثير من الحسينيات في بغداد وضواحيها، وهناك سعيٌ جديد لتحويل نصف المساجد السنية التي بنتها الدولة إلى الوقف الشيعي، وهذا ما يعزز سيطرة الشيعة في بغداد وانتزاع المزيد من المساجد من أيدي السنة، وتمكنهم من إيجاد موطئ قدم لهم في المناطق السنية (بيجي وتكريت وسامراء) لأن محافظة صلاح الدين يوجد فيها 8 مساجد ضخمة بناها النظام السابق.

 

إدارة شؤون العاصمة

يتولى الشيعة حالياً أمر الإدارة المحلية وتنفيذ المشاريع الخدمية في بغداد من خلال محافظ بغداد صلاح عبدالرزاق "القيادي في حزب الدعوة"، ورئيس مجلس المحافظة كامل ناصر الزيدي (عضو حزب الدعوة- تنظيم العراق) وهو خليفة الرئيس السابق للمجلس معين الكاظمي (القيادي في منظمة بدر)، وكذلك أمانة بغداد والتي يرأسها صابر العيساوي (القيادي في المجلس الأعلى)، أما المسؤول السني في مجلس المحافظة رياض العضاض فقد اعتقل بتهمة دعم وتمويل الإرهاب (شهر كانون الثاني/ يناير 2012).

وتنصب كافة الجهود الحكومية على الاهتمام والعناية بالمناطق الشيعية لا سيما المناطق الخاضعة لسيطرة الأحزاب الدينية، والأماكن المقدسة عندهم كالكاظمية، أما المناطق السنية فيصيبها الإهمال الممنهج، أو التعمير المبرمج لصالح الشيعة كمحاولة لاختراقها وتوسيع النفوذ فيها.

أما الوظائف الحكومية فالوزارات السيادية المهمة مغلقة للشيعة لا سيما للأحزاب الدينية (الدعوة والمجلس الأعلى والتيار الصدري)، وبقية الوزارات التي يترأسها السنة فللشيعة نفوذ كبير فيها، ولا توجد سلطة فعلية لأي مسؤول سني (عسكري أو مدني) في بغداد، لا سيما مع قرارات الاجتثاث (قانون المساءلة والعدالة)، ومذكرات الاعتقال (قانون مكافحة الإرهاب/ المادة الرابعة) والتي طالت كبار المسؤولين السنة (نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي مثلا)، وعمليات الاغتيال التي طالت الكثير من الضباط السنة في وزارة الدفاع وغيرهم من المسؤولين السنة في الوزارات.

 

موقف المسؤولين السنة

المواقف الهزيلة للمسؤولين السنة تزيد من ضعف الواقع السني في العاصمة، فديوان الوقف السني المحاط بأغلال الفساد المالي والمتآمرين مع رئيس الحكومة لا يؤدي الواجب اللازم في حماية ما تبقى من وجود سني وتثبيته، وقد أكلت نيران الفساد كثيرا من ميزانية الديوان التي كان ينبغي أن تخصص لرعاية المصالح السنية في بغداد.

أما الحزب الإسلامي العراقي فيحاول التأقلم مع الواقع الشيعي الجديد لا سيما بعد خسائره السياسية الفادحة في انتخابات آذار/ مارس 2010، ولا يرغب بالاصطدام مع دكتاتورية المالكي، وبعض أطرافه تسعى للتقرب من مكتب رئيس الوزراء لعلها تكون الوجه السني المعتدل المقبول رسمياً.

أما القائمة العراقية فقد أنهكتها الانقسامات والمصالح الحزبية والشخصية والأطماع المادية التي قتلت دورها كمدافع عن حقوق العرب السنة.

وعلى الضفة المقابلة نجح المالكي في تجنيد بعض السنة ليضفوا الشرعية على نفوذه وينفوا عنه صفة الطائفية، لتمرير مخططات وسياسات التغيير الديمغرافي تحت غطاء رسمي قانوني.

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :133,975,498

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"