الاحتلال الأميركي للعراق: الحصاد المر

 مع حلول الذكرى الخامسة عشر للاحتلال الأميركي للعراق الذي بدأ عام 2003 خيمت أجواء الحزن والألم على العراقيين، وهم يستذكرون الحصاد المر للسنوات العجاف التي مرت على بلدهم بعد وقوعه ضحية مؤامرة دولية وإقليمية شيطانية، جعلته وطنا مستباحا لكل النفوس الشريرة التي لم تترك مجالا للإيذاء والتنفيس عن الأحقاد إلا ومارسته ضد شعبه. 

وخلال تلك السنوات العجاف، تكشفت ملامح صورة تلك المؤامرة الشيطانية وأسبابها وأبعادها واللاعبين الأساسيين فيها والثانويين، الذين وظفوا كل وسائل الإعلام قبل وبعد الاحتلال الأميركي لتظليل الشعوب والترويج للغزو والاحتلال، الذي أراد له مخططوه ان يكون المقدمة لاستباحة العديد من الدول العربية. وإذا كانت ادعاءات ومبررات الغزو الفارغة التي روج لها الداعون له، مثل وجود أسلحة الدمار الشامل أو احتضان النظام السابق للقاعدة، فإن السبب الحقيقي هو تدمير أقوى دولة عربية ضمن ترتيبات الغرب لجعل (إسرائيل) الدولة الأقوى بدون منافس في المنطقة، إضافة إلى أحلام السيطرة على ثروات العراق النفطية الهائلة.

ومع ان العالم اكتشف متأخرا أبعاد هذه اللعبة القذرة، وأكد عدم قانونيتها، ومن ذلك قول الأمين العام السابق للأمم المتحدة، كوفي انان «ان تغيير النظام كان الهدف الأول لحرب العراق وأنها كانت غير شرعية» فإن دول العدوان نفسها، أقر قادتها بخطأ قرارهم غزو العراق، عندما قال الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما ان غزو العراق وقتل صدام حسين كان خطأ كبيرا، وانه ادى إلى ظهور القاعدة و«داعش» وان إيران كانت المستفيد الوحيد من ظهور تنظيم «داعش» في العراق. كما ان وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس، نفت في لقاء عقدته في معهد بروكينغز أن يكون سبب غزو العراق هو جلب الديمقراطية له، قائلة «لم يكن قط في خطط الرئيس بوش حينها استخدام القوة العسكرية من أجل جلب الديمقراطية، لا في العراق ولا في أفغانستان». وضمن السياق، وجهت لجنة جون تشيلكوت البريطانية التي استغرقت 7 سنوات للتحقيق في قرار المشاركة في غزو العراق، انتقادات قاسية لرئيس الوزراء الأسبق، توني بلير، معتبرة ان «اجتياح العراق عام 2003 حدث قبل استنفاد كل الحلول السلمية» وان «خطط لندن لفترة ما بعد الحرب لم تكن مناسبة». وخلص التحقيق إلى أن تبرير وتخطيط وتعامل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير مع حرب العراق اشتمل قائمة من الإخفاقات.

حجم الخسائر

ورغم ادعاء الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأبن، انه جاء لتحرير العراقيين وجعل بلدهم نموذجا للديمقراطية في المنطقة، إلا ان الشعب العراقي دفع ثمنا باهظا جراء الاحتلال وما ارتكبه من جرائم مباشرة وغير مباشرة ضد العراق وشعبه وتحويل البلد إلى ساحة للصراعات المحلية والأجنبية.

وقد حرص الاحتلال الأميركي والحكومة العراقية، على إخفاء حقيقة وحجم الخسائر البشرية والمادية للطرفين، لذا تباينت الاحصائيات حولها، إلا ان العديد من الدراسات والبحوث تناولت هذا الموضوع بدقة، ومن ذلك دراسة حديثة قام بها نيكولاس ديفيز، مؤلف كتاب «دماء على أيدينا: الغزو الأميركي وتدمير العراق» بالاشتراك مع عدة مؤسسات معنية منها «ميديا بنيامين» ومؤسسة منظمة «كود بينك» النسوية، المهتمة برصد جرائم قادة الحرب على العراق، توصل الباحثان ومن خلال حساباتهما المستندة إلى أفضل المعلومات المتاحة، إلى ان «عدد الضحايا ليس بعشرات الآلاف، كما قد يتبادر إلى الأذهان، بل 2،4 مليون عراقي قتلوا منذ غزو عام 2003».

وكان الجيش الأميركي ادعى مقتل نحو 77 ألف عراقي بين كانون الثاني/يناير 2004 وآب/أغسطس 2008 بينما أشارت تقديرات وثائق ويكيليكس المسربة عن القوات الأميركية عام 2010 إلى مقتل 109 آلاف عراقي منذ بداية الغزو.

ومن جانبها، تكبدت قوات الاحتلال الأميركية وحلفاؤها خسائر فادحة في الأرواح، حيث قُتل 4500 جندي أميركي وأصيب نحو 30 ألفاً آخرين، كما قتل 179 جندياً بريطانياً ومقتل 126 جنديا من دول التحالف، اضافة إلى خسائر كبيرة في الأموال والمعدات، جراء أعمال المقاومة والعمليات العسكرية. وقالت دراسة أجراها معهد «واطسون» الأميركي، إن «تكلفة الحرب الأميركية في العراق بلغت 7،1 تريليون دولار إضافة إلى 490 مليار دولار من الفوائد المستحقة للمحاربين القدماء» مبينة أن «النفقات يمكن أن تزداد إلى 6 تريليون دولار خلال العقود الأربعة المقبلة ماعدا فوائدها».

ملامح عراق ما بعد الاحتلال

ورغم ادعاءات الإدارة الأميركية انها «لا تريد غزو العراق وإنما تحرير الشعب العراقي» إلا ان العراقيين اكتشفوا لاحقا كذب هذا الادعاء من خلال انهيار أوضاع بلدهم، نتيجة للإجراءات التي قامت بها سلطة الاحتلال في البلد بهدف تدمير أسس الدولة فيه وتمزيقه وجعله ضعيفا عاجزا عن المقاومة والنهوض مجددا. وقد أصدر الحاكم الأميركي بول بريمر مئات القوانين والتعليمات اضافة إلى قانون إدارة العراق سيئ الصيت، الذي حقق مبدأ «فرق تسد» عبر إثارة الفتنة الطائفية والعنصرية بين مكونات الشعب وعزل كل الكفاءات والخبرات الوطنية المخلصة.

وحول الآثار العسكرية للاحتلال، يقول اللواء المتقاعد هلال الشمري انه اضافة إلى إقصاء أكبر قوة عسكرية عربية، فإننا ومنذ الساعات الأولى، تابعنا إجراءات قوات الاحتلال الخبيثة التي اكتفت بالسيطرة على مبنى وزارة النفط والقصر الجمهوري، بينما شجعت على استباحة وسرقة كل مؤسسات الدولة دون استثناء رغم قدرتها على منع ذلك. ورأينا وقتها جموع منظمة وبعضها عشوائية، اقتحمت الدوائر الحكومية والبنوك والمتاحف والمعسكرات وسرقت وخربت كل شيء فيها، وتوجهت بأغلب المسروقات نحو حدود دول الجوار. وذكر الشمري ان قوات الاحتلال أقامت مناطق لتجميع ملايين القطع من الأسلحة بضمنها الطائرات والدبابات والصواريخ والسفن العائدة للجيش العراقي، في مناطق سمحت فيها للعصابات بتدمير تلك الأسلحة وتحويلها إلى خردة صدرتها إلى الخارج أيضا في وقت قامت جماعات منظمة أخرى بتهريب كميات هائلة من تلك الأسلحة إلى دولة مجاورة. وأضاف، ان قوات الاحتلال تعمدت تفكيك الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية وفي الوقت نفسه سمحت بنهب المعسكرات فأصبح العراق دولة بلا سلاح أو أجهزة أمنية مقابل شعب مسلح ومنظمات مسلحة جاءت من الخارج تسيطر على الشارع، معتبرا ان سلوك الاحتلال بحل القوات المسلحة لم يكن خطأ أو سوء تقدير بل تعمدا لإضعاف البلد وتمزيقه وإغراقه في الفوضى والأزمات رغم علمه بان ذلك سيخلق فراغا أمنيا وبيئة يصعب السيطرة عليها، أفرزت لاحقا ظهور تنظيمات متطرفة منها القاعدة و«داعش» والميليشيات، أو تواجد أحزاب وتنظيمات مرتبطة بأجندات أجنبية على الأراضي العراقية مثل حزب العمال الكردستاني التركي وغيره.

ويؤكد الشمري، ان أميركا أرادت السيطرة على العراق وثرواته ولكنها فشلت في تحقيق هذه المهمة ولذا سلمته إلى حلفاء إيران الذين سهلوا للأخيرة نشر نفوذها في كل مفاصل البلد. ولذا برزت بعد 2003 ظاهرة الميليشيات المسلحة المدعومة من دول الجوار، التي فرضت بالسلاح سيطرتها على الشارع والدولة، وجعلت العراق فاقدا للقرار السيادي الحقيقي.

وعن أوضاع إقليم كردستان بعد الاحتلال الأميركي، أكد فرهاد صالح القيادي في الاتحاد الإسلامي الكردستاني ان العراقيين وبضمنهم الكرد رحبوا بتغيير النظام السابق، ولكن بعد تجربة 15 سنة، نرى ان التوافق والتوازن في البنية العراقية قد اختل، وان الحكم مال إلى نوع من الطائفية. مبينا ان فترة 15 سنة كانت كافية لبناء تجربة حكم ناجحة تعتمد التفاعل والتنمية، إلا ان التطورات في العراق كله وخاصة بعد «داعش» أدت إلى التدمير الكامل للبلد وتفشي الفساد وسوء الإدارة وبشكل ليس له مثيل في دول العالم.

وعبر عن اعتقاده بأن الإسلام الشيعي الذي حكم البلاد خلال هذه الفترة، فشل فشلا ذريعا في الحكم وإدارة البلد، وعليه ان يراجع مواقفه وان يقدم الخدمات والعمران وبناء البلد وسيادة القانون والديمقراطية، مؤكدا ان خيبة الأمل ليست في انفراط التحالف الكردي الشيعي فحسب، بل في مواقف حكومة بغداد، وتقصيرها في توفير الخدمات حتى في المحافظات الجنوبية، رغم بيع 4 ملايين برميل يوميا.

وقال «ان استخدام الحكومة الاتحادية للسلاح في تشرين الأول/اكتوبر الماضي ضد الكرد للسيطرة على كركوك، شكل خيبة أمل كبيرة للمواطن الكردي ولحكومة الإقليم، إذ كيف يتم استخدام السلاح لحل خلاف داخلي نص الدستور على آليات للتعامل معه وبرعاية الأمم المتحدة؟». معبرا عن اعتقاده ان الدولة العراقية أصبحت متعبة حكومة وشعبا ومكونات.

وفيما إذا حقق الاحتلال الأميركي، الحلم الكردي بإقامة دولته، قال القيادي الكردي، «لقد أصبنا بخيبة أمل إزاء اشهار السلاح على الكرد في كركوك والمناطق المتنازع عليها، ورغم شعور الشعب الكردي بالإحباط، فان الحلم الكردي سيتحقق يوما ما على يد هذا الجيل أو الجيل القادم، وان على العراقيين ان يعلموا انه ليست هناك قضية قومية أو غيرها، يمكن ان تحل بالسلاح».

انهيار الاقتصاد

ورغم ان ثروات العراق الهائلة والمتنوعة، تكفل له مستوى متقدما بين دول العالم، إلا ان الفساد وسوء الإدارة للحكومات خلال فترة الاحتلال وما بعدها، أوصلت البلد إلى حافة الإفلاس والغرق في الأزمات الاقتصادية والديون.

وتعليقا على تقرير «النقد الدولي» حول وصول الديون العراقية إلى مستويات خطيرة، أكد نائب رئيس الجمهورية أياد علاوي، ان الملف الاقتصادي أخطر من الملف الأمني في العراق والاقتصاد العراقي متدهور ووصل إلى مديونية هائلة غير متوقعة أبدا، منوها إلى ان هناك سوء إدارة وفسادا وما لم يتم تدارك الأمر سنصل إلى نقطة الإفلاس. وقد أصبح العراق معروفا عالمياً بكونه من بين أكثر 10 بلدان فساداً في العالم، جراء قيام أحزاب متنفذة في السلطة بنهب مليارات الدولارات لصالحها، عبر وسائل شيطانية منها المشاريع الوهمية وتسخير ميزانيات الوزارات لخدمتها، والرشى وغيرها.

وفي نموذج لهدر أموال العراق، أعلن البنك المركزي، ان مبيعاته من الدولار للمصارف الخاصة بلغت في عام 2016 أكثر من 33 مليار و523 مليون دولار، وفي عام 2015 أكثر من 44 مليار دولار، تم تحويل معظمها إلى الخارج لحساب الأحزاب ومافيات الفساد.

ويأتي ذلك في وقت ارتفعت فيه نسبة الفقر في العراق مؤخرا، حسب وزارة التخطيط التي أعلنت، ان نسبة الفقر في البلاد وصلت إلى 30% بعد أن كانت 19%. كما تشير الاحصائيات إلى ان سكان العشوائيات في العراق بلغوا عام 2018 أكثر من 13% من سكان العراق.

واجتماعيا، يتفق جميع العراقيين على ان البلاد شهدت بعد غزوها تفككاً مجتمعياً، من خلال بروز ظواهر شاذة أبرزها الطائفية، التي خلقتها قوى سياسية كوسيلة للسيطرة على السلطة، والتي تطورت ولأول مرة في تاريخ العراق، إلى حرب طائفية أزهقت أرواح مئات الآلاف من العراقيين وهجرت الملايين داخل وخارج البلد، وخاصة في الفترة بين 2005 و2009. وشهدت الأوضاع الاجتماعية سلسلة من الانهيارات عبر تفشي ظواهر سلبية متعددة مثل ازدياد الطلاق وانتشار المخدرات والجريمة المنظمة وعمليات الخطف للانتقام أو الحصول على فدية مالية، وتزايد حالات الإلحاد.

وحذر الباحث الإسلامي والمفكر السياسي غالب الشابندر من موجة الحاد ستعم العراق بسبب ممارسات أحزاب الإسلام السياسي في السلطة، مبينا «ان العراق يعد أول دولة عربية حاليا من حيث نسبة الملحدين بسبب الإحباط وممارسات أحزاب الإسلام السياسي طيلة السنوات الماضية».

وأخيرا، ان الشعب العراقي أصبح محبطا من النتائج الكارثية للاحتلال الأميركي والمستقبل المجهول، كما يتألم من مواقف الدول العربية والأجنبية تجاه وطنهم، ليس بسبب مشاركتها في احتلال وتدمير العراق فحسب، بل وفي استغلالهم أزماته من أجل مصالحهم، ولسماحهم بتدفق كل الأشرار لتشكيل تنظيم «داعش» الذي شارك الاحتلال الأميركي في الحاق أفظع أنواع الأذى في بلدهم، بينما وقف الآخرون يتفرجون على مأساة العراق دون محاولة إيقاف النزيف المتواصل في دماء العراقيين واقتصادهم وتخريب نسيجهم الاجتماعي وسيادة البلد، وكل ذلك جراء الغزو الأميركي للعراق الذي فتح أبواب الجحيم على هذا البلد.

المصدر

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :133,412,893

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"