الانتخابات العراقية القادمة وجريمة المشاركة فيها

عوني القلمجي

يبدو ان معالم الخوف اصبحت واضحة في وجوه اركان عملية الاحتلال السياسية. فتسويق الانتخابات وخداع الناس في الاشتراك فيها وضمان الفوز بها، لم يعد سهلا ويسيرا كما كان الامر يجري في السابق. حيث بدأت تلوح في الافق توجهات ملحوظة لدى قطاعات واسعة من العراقيين بمقاطعة الانتخابات لعدم جدواها، الامر الذي قد يؤدي الى العودة لخيار الانتفاضة ،التي لم يزل شبحها يطاردهم نهارا ويقض مضاجعهم ليلا. وهذا ما وجدناه في تلك المحاولات المخادعة والمضللة التي لجأ اليها هؤلاء الجلاوزة، ومنها تغيير اسمائهم واستبدال جلودهم وتجميل اشكالهم البشعة.

 

فعمار الحكيم، على سبيل المثال، صبغ عمامته بلون العلمانية وتبرأ من مجلسه الاسلامي، وأعلن تنظيما جديدا، سماه تيار الحكمة الوطني، وسليم الجبوري اعتزل كتلته “السنية” واسس حزبا سماه التجمع المدني للاصلاح، واسامة النجيفي شكل حزب سماه”للعراق متحدون”، كبديل عن حزب “متحدون للإصلاح”، واياد علاوي عراب الاحتلال، تحول الى وطني ومقاوم عنيد ضد المحتل الاميركي، وركز على انهاء النفوذ الايراني، لدغدغة مشاعر العراقيين التي عبروا عنها بشعار، “ايران بره بره بغداد حرة حرة”. ومقتدى الصدر تحول من رجل دين” قدس الله سره” الى داعية للاصلاح تحت شعار “شلع قلع كلهم حرامية”، وابتعد عن ايران سنتمتر واحد وتوجه الى اعادة العراق الى حضنه العربي.

ناهيك عن ظهور عدد لا يحصى من الاحزاب والتنظميات الكارتونية والتجمعات واسماء قوائم انتخابية كان اخرها قائمة ثائرون المدعومة من قبل ما يسمى بالتيار بالمدني الذي ابتكره الحزب الشيوعي العراقي لمداراة خيبته وسقوطه في مستنقع الاحتلال.

اما طرفي الصراع داخل حزب الدعوة الحاكم، وتحديدا بين نوري المالكي وحيدر العبادي، فقد اختارالاول شعار الاغلبية السياسية لقائمته المسماة بدولة القانون، وهو يقصد بالطبع الاغلبية الشيعية. واعلن الثاني، تشكيل تحالف جديد مع قادة من الحشد الشعبي سماه تحالف النصر والاصلاح، والذي ضم ايضا، كما قيل اشخاص من السنة والكرد والتركمان. وعلى حس الطبل خفت ارجل بعض الخلايا النائمة من خارج العملية السياسية، مثل المدعو بالشيخ خميس الخنجر، والاعلامي سعد البزاز صاحب قناة الشرقية. حيث شكل الاول حزب باسم المشروع العربي، وشكل الثاني تجمع سياسي سماه التيار الوطني وهكذا.

ولكن هذا ليس كل شيء، فبالاضافة الى هذه المحاولات، فقد جرى تعزيزها بتوظيف عدد كبير من السياسيين والكتاب والمثقفين التابعين، بغرض الترويج للانتخابات، تحت ذريعة عدم فسح المجال امام السيئين واختيار الوطنيين المخلصين هذه المرة. ولم ينس هؤلاء تسويق كل طرف على انه البطل الذي طرد تنظيم داعش الارهابي التكفيري من مدينة الموصل، الذي ارتكب جرائم بشعة ومخيفة بحق العراقيين الابرياء. وكذلك الاشادة بالمواقف “البطولية” ضد استفتاء مسعود البرزاني. وعدم الاعتراف به والدفاع عن وحدة العراق وسيادته الوطنية!!!!.

الدخول في هذه التفاصيل ليس عبثا، وانما الغرض منه اظهار مدى الاهتمام الذي يبديه هؤلاء لهذا الامر، فمقاطعة الانتخابات يعني هدم السياج الحديدي التي تمترس هؤلاء ورائه، كونها تمنح الشرعية لوجودهم في السلطة، وتغطي على كافة جرائمهم وسرقاتهم، وتحميهم من مواجهة مصيرهم الاسود. في حين تصبح مقاطعة الانتخابات بالنسبة للمحتل  اداة لهدم واحدة من مرتكزات العملية السياسية التي تباهى بها، واعتبرها الاساس للنظام الديقراطي في العراق.

خاصة بعد سقوط ذريعة امتلاك العراق لاسلحة الدمار الشامل. الامر الذي يدعونا جميعا، وهنا بيت القصيد ومربط الفرس،الى عدم الاستهانة بما يفعلون، ويفرض علينا، في نفس الوقت، المساهمة في تبصير الناس بجريمة الاشتراك في هذه الانتخابات. فالاعتماد على قدرة عموم الشعب العراقي باكتشاف كذب وزيف هذه المحاولات لوحده، يعد نوع من التجني والظلم. فهذا الشعب  قد ضاقت به سبل الحياة وانهكت قواه الة الدمار والقتل، والاهم من ذلك الاحباط الذي اصابه جراء تراجع الانتفاضة الشعبية بشكل واضح.

بداية، ومن دون اللجوء الى تحليلات ملتوية، واستخدام مصطلحات ثقيلة على النطق والسمع، او الدخول في مجال علم السياسة والاجتماع والتاريخ وغيرها، فالاشتراك في الانتخابات، يعني لا محال التوقيع بالعشرة على شرعيتها اولا، رغم اعوجاج قانونها وطائفية لجانها وانحياز مفوضيتها وتواطيء المشرفين على صناديقها. ويعني ثانيا، المصادقة مقدما على نتائجها، التي ستكون كلها من حصة ذات الوجوه الكالحة. ولا يغير من هذه الحقيقة امكانية فوز عدد من المرشحين المستقلين. حيث لن يكون حالهم افضل من اسلافهم، الذين فازوا في الانتخابات السابقة، ثم ضاعت اخبارهم ولم نسمع عنهم شيئا. او في احسن الاحوال، لا هشو ولا نشوا كما يقول العراقيون.

اما الحديث عن امكانية وصول وطنيين ومخلصين الى البرلمان، وتشكيل كتلة كبيرة، تكون قادرة على اصلاح العملية السياسية من داخلها، فمثل هذا القول يعد ضرب من الخيال. بل ويدخل في خانة المستحيلات. حيث سيصطدم القادمون الجدد، بكل تاكيد، بالحيتان الكبيرة التي ليس من مصلحتها اجراء اي اصلاح مهما كان متواضعا. وسيصطدمون ايضا بالدستور الذي يحمي هذه العملية السياسية الطائفية من اي اختراق. والذي لا يمكن تعديله او تعديل اية مادة فيه تضر بمصالح اي طرف فيها لامتلاكه بما يشبه حق الفيتو وفق الفقرة الرابعة من المادة 142.

وكان اكثر هذه الاقوال سذاجة وسخرية واستخفاف بالعقول، تلك التي تصور الرئيس الاميركي الجديد دونالد ترمب، بانه حزين ولا ينام الليل جراء ما حل بالعراق من دمار وخراب على يد اسلافه المجرمين جورج بوش الابن وباراك اوباما. ومن شدة حبه لهذا البلد، قرر انقاذه من محنته وانهاء معاناة اهله، ومن اجل ذلك، وضع خارطة طريق تضمنت، قبل اجراء الانتخابات القادمة، التخلص من الاحزاب الحاكمة كونها احزاب دينية متطرفة. والقضاء على المليشيات المسلحة، وحل الحشد الشعبي، والغاء جميع القوانين التي صدرت بعد عام 2003، والتي تتعاكس مع قوانين الدولة المدنية، وتعديل الدستور، وتطهير القضاء، وتقديم الفاسدين والسراق والمجرمين الى المحاكم، واقامة نظام فدرالي شبيه بالنظام السويسري، كبديل لنظام المحاصصة الطائفية والعرقية!!!!.

هذا الراي لا يدخل في باب الكيدية، كون كاتب هذه السطور، ضد الانتخابات، ولا في باب المبالغة من اجل تحقيق هدف سياسي، ولا هو قصور فكري في تشخيص الحالة، وانما نذكر ذلك لتاكيد حقيقة واحدة مفادها، بان اية مراهنة على الانتخابات لاصلاح العملية السياسية من داخلها، او على اي تغيير في السياسية الاميركية في ظل ترمب او غيره،  هو ضرب من الخيال او ضرب من المستحيل.

كون ذلك يتعاكس مع مخطط اميركا وتوابعها من دول الجوار، وفي المقدمة منها ايران وامارات الخليج، لتدمير العراق وتمزيق وحدته الوطنية وادخاله في حروب طائفية وعرقية، لتتمكن من بقائها في العراق عقود طويلة من الزمن.

بالمقابل وعلى الجهة الاخرى، فالانتخابات عموما لا تدل، كما يتوهم البعض، على كون النظام في العراق او حتى في الدول المستقلة والمتحضرة نظاما ديمقراطيا يمكن من خلاله اصلاح ما افسده الدهر . وانما هي واحدة اليات النظام الديمقراطي، والتي اهمها الفصل بين السلطات الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وسيادة القانون وتداولية السلطة والمساواة بين الناس بصرف النظر عن الجنس والدين والمذهب واللغة الخ. وهذه ليس لها اية وجود في العراق المحتل الا من حيث الشكل، وانما الموجود هو نظام المحاصصة الطائفية والعرقية في ادارة الحكم في العراق، والتي تتعاكس كليا مع اي نظام ديمقراطي في ادنى اشكاله وصوره.

كما ان الانتخابات في النظم الديمقراطية البرلمانية، كما هو الحال في العراق، الذي اعتمد النظام البرلماني وليس الرئاسي، يشكل الفائز الحكومة بتكليف من رئيس الجمهورية بعد انتخابه في اولى جلسات البرلمان الجديد، ويقبل الخاسر بموقع المعارضة لتكون مهمته مراقبة اداء الحكومة ومحاسبتها واستغلال اخطائها، او تقصيرها، على امل الفوز بالانتخابات القادمة. في حين لا يوجد في العراق حزب حاكم مقابل حزب او احزاب معارضة.  يضاف الى ذلك، فان صناديق الاقتراع ونتائجها تضرب عرض الحائط اذا لم تقترن بموافقة المحتل الاميركي وتابعه الايراني.

فعلى سبيل المثال فقد تم طرد ابراهيم الجعفري المرشح من قبل القائمة الفائزة في انتخابات 2005 من تشكيل الحكومة لرفض الكرد له واستبداله بنوري المالكي، وطرد الفائز اياد علاوي في انتخابات 2010 لرفض ملالي طهران واستبداله بنوري المالكي، وكان اخرها طرد الاخير، رغم فوزه الساحق في انتخابات 2014 ، واستبداله بالمدعو حيدر العبادي.

اما من الناحية العملية او الواقعية، فتوزيع المناصب على الفائزين لا يجري ،على اساس المواطنة والنزاهة والكفاءة. وانما يخضع لنظام المحاصصة الطائفية والعرقية. فعلى سبيل المثال، فان منصب رئيس الجمهورية يكون من حصة الكرد ورئيس البرلمان من حصة السنة ورئيس الوزراء من حصة الشيعة.

وهكذا بالنسبة لبقية المناصب السيادية وغير السيادية. ومن الطريف فان سحب الثقة من اي رئيس او وزير لاي سببب كان، فان البديل لابد وان يكون من نفس هذه الجهة او تلك، واذا لم يحظى بالموافقة  يبقى مكانه شاغرا مهما طالت المدة. وقد حدث ذلك في رفض ترشيح القائمة العراقية لمنصب وزير الدفاع في عهد وزارة نوري المالكي، ومنصب وزير المالية في عهد حيدر العبادي.

واخيرا وليس اخرا، فان الانتخابات الثلاثة التي جرت في العراق لم تات نتائجها بغير هذه الوجوه الكالحة، التي دمرت البلاد والعباد، وارتكبت مختلف الجرائم، وسرقت المال العام، وفرطت باستقلال البلد وسيادته الوطنية، وكان اخرها السماح لتنظيم داعش المجرم،  وفي وضح النهار، لاحتلال العديد من المدن العراقية، لكي يجري تهديمها لاحقا تحت  ذريعة تحريرها. وكان اخرها هدم مدينة الموصل الحدباء على رؤوس ساكينها.

باختصار شديد، فان الانتخابات القادمة، ومهما جرى تزويقها او تجميلها بمساحيق العالم، لن تكون سوى نسخة طبق الاصل من الانتخابات التي سبقت. وان المشاركة فيها هي اعتراف بمشروعية العملية السياسية، واعطاء الحق لذات الوجوه الكالحة التي ستفوز حتما، بمواصلة سرقاتهم من جهة، وخدمة مشروع الاحتلال  وتكريسه لعقود طويلة من الزمن من جهة اخرى. وبالتالي، فان على جميع العراقيين والشخصيات الوطنية والمثقفين والشعراء المناهضين للاحتلال الوقوف ضد هذه الانتخابات ورفض المشاركة فيها تحت اية ذريعة كانت، والانتقال الى المشاركة الفعلية في الانتفاضة الشعبية وصولا الى اسقاط العملية السياسية برمتها وتشكيل حكومة وطنية مستقلة تاخذ على عاتقها بناء العراق الجديد فعلا.

املنا كبير هذه المرة بان يكون شعبنا وقواه واحزابه الوطنية المعادية للاحتلال وعمليته السياسية، عند مسؤوليتهم الوطنية ويقوموا بانجاز هذه المهمة النبيلة التي طال انتظارها.

المصدر

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :133,411,495

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"