عندما تتدحرج كرة الثلج!

عبداللطيف السعدون

الكذبة الصغيرة التي تنمو لتصبح أضعاف حجمها تشبه كرة الثلج التي عرفناها في حكايات الأطفال، وشاهدها كل من قُدّّر له أن يقيم في بلدان العواصف الثلجية، والتي تكبر كلما تدحرجت!

 

هذا ما يحدث اليوم على أرض الواقع، إذ ثمّة من يطلق كذبة ما، وراءها غرضٌ يريد تحقيقه، وثمّة من تستهويه فيتلقفها، متصوراً أنها حقيقة، لينقلها إلى أكبر مجموعة من الناس، ويكون السباق في إيصالها، وللحصول على جرعة من المتعة، وثمّة من يكتشف أنها ليست سوى كذبة، لكنها تحرّك جانباً عاطفياً عنده، أو تدخل في جعبة تمنياته التي يزخر بها دماغه، فيعمد إلى نشرها، لعلها تتحول إلى حقيقة.

هكذا هو منطق عصر تجارة الأفكار الذي تخوض فيه الحقيقة نزالاً حادّاً، لكنها تخسر في النهاية، كما قال مرة ريتشارد ستينجل، الصحافي والدبلوماسي الأميركي الأسبق.

ومنطق العصر هذا هو الذي دفع كتاباً ومفكرين لصياغة مفردة "ما بعد الحقيقة"، كما دفع قاموس أوكسفورد لاعتماد المفردة في العام المنصرم، حيث يبدو تأثير الحقيقة بفعل شبكات التواصل أقل من تأثير العامل العاطفي الذي يعبر عن رغبات المتلقي وتمنياته، ويتم تدريجياً تجاهل الوقائع القائمة على الأرض، إلى غاية ما تصبح الكذبة كأنها وحدها الحقيقة.

كرة الثلج هذه حفّزت رؤساء 30 دولة، وخبراء ورجال أمن وإعلاميين، لمناقشة عالم "ما بعد الحقيقة، ما بعد الغرب، ما بعد النظام" الذي يبدو ماثلاً للعين، وذلك في دورة هذا العام لمؤتمر الأمن الأوروبي التي انعقدت في ميونيخ، وقد اتفقوا على أن الأخبار الزائفة بدأت تشكل خطراً على الوضع الجيوسياسي العالمي، في ظل اتساع نطاق شبكات التواصل، وانتشار أشكال التقنيات الناقلة هذه الأخبار، ودعوا إلى إيجاد وسائل ومبادرات كاشفة للزيف والكذب، لكنهم أقرّوا على أن لا وصفة سحرية قادرة وحدها على فعل الكثير.

وكشفت واشنطن عن أخبار كاذبة، نشرتها مواقع روسية، بهدف التأثير على الانتخابات الأميركية، وتبعتها لندن بإعلانها أنها تعاني من ظاهرة الأخبار الكاذبة، وبدأت تحقيقاً مع "تويتر" بخصوص حساباتٍ مرتبطة بروسيا، وقالت برلين إنها أقرّت عقوباتٍ على ناشري الأخبار الزائفة على الإنترنت.

والمثير في عالمنا أن الناس العاديين ليسوا وحدهم الذين يتلقون كل خبرٍ يستهوي مشاعرهم، وينشرونه، فهناك نخب مثقفة تمارس اللعبة نفسها. مثقفون وكتاب وسياسيون وذوو مكانة في المجتمع، لكنهم لا يعمدون إلى تمحيص ما يقرأونه أو يسمعونه، وإنما يأخذون الأمر على علّاته، ويمضون به إلى آخرين، ففي ألمانيا صدّق كثيرون أن هتلر لم ينتحر، وإنما هرب إلى كولومبيا وعاش سنوات طويلة، من دون أن يكتشفه أحد، وقد اتضح أن من روّج الخبر بعض دعاة التفوق العرقي، من ورثة هتلر في ألمانيا نفسها الذين أعادوا طبع كتابه المشهور "كفاحي".

وفي العالم العربي، هناك من أطلق كذبة أن صدام حسين لم يُعدَم، وأن الذي أعدم هو الشبيه، وأنه يعيش اليوم في مكان سري، وتحت حراسة مشددة من الأميركيين، وإنه عائد إلى السلطة قريباً. وصاحب الكذبة في الأصل صحافي مصري مغمور نشر كتاباً بعنوان "صدام لم يعدم، وعدي وقصي لم يقتلا". وفي حينه سجَّل الكتاب مبيعاً عالياً في معرض القاهرة الدولي للكتاب.

وفي العراق، تدحرجت الأسبوع الماضي كرة ثلج، وكبرت من خلال كذبة "تصنيف الجيش العراقي أفضل جيش في العالم للعام 2017، من دون منازع، للإنجازات العظيمة التي حققها، والمسافات الشاسعة التي حرّرها، ونوعية المعارك التي انتصر بها". وإطلاق لقب "أفضل قائد عسكري" للعام نفسه على الفريق عبدالوهاب الساعدي الذي قاد معارك (تحرير) الفلوجة والموصل.

ولكي يكتسب مصداقيته، نسب الخبر إلى الجنرال المتقاعد تاوزند راشنفورد وقناة جورنال فور الانكليزية التي يبدو من البحث عبر "غوغل" أنه لا وجود لها.

وزاد صانعو الخبر في أن مجلة جينز، المتخصصة بشؤون الأمن والدفاع والتسليح البريطانية، خصصت جوائز لمختلف الاختصاصات العسكرية، سوف تمنحها في مهرجان عالمي الشهر المقبل، ومن بينها جائزة للجيش العراقي، وأخرى للفريق الساعدي نفسه.

وفي اليوم التالي، تدحرجت كرة الثلج أكثر، مع نشر خبر سفر الساعدي المزعوم إلى لندن، لتسلم الجائزتين الممنوحتين للعراق.

.. صدّق الناس الكذبة وابتلعوها، وتنفس مروّجوها الصعداء، لكن أحداً لم يعرف بالدقة الهدف الذي توخاه هؤلاء من إطلاقها!

 

نشر المقال هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :133,412,476

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"