الاستفتاء الكردي يهدد بانفجار صراع القوميات

بشير موسى نافع

في واحدة من طلعاته المثيرة، قال زعيم حزب الحركة القومية التركي، دولت بهتشلي، إن التحرك الذي بدأته ‏حكومة إقليم كردستان العراق لعقد استفتاء حول تقرير المصير يمكن أن يعتبر ‏casus belli، سبباً ‏لإعلان الحرب على حكومة إقليم كردستان العراق. ولم يكن غريباً، طالما أن المسألة تتعلق بحرب، أن ‏يولد تصريح السيد بهتشلي، الذي لا يتطلب موقفه، وموقف الحزب الذي يقوده، من المسألة الكردية، كبير ‏توضيح، ردود فعل واسعة النطاق، داخل تركيا وخارجها.‏

 

المهم، أن رئيس الحكومة التركية، بن علي يلدريم، سرعان ما أدرك خطورة هكذا تصريحات، ورد بالتأكيد ‏على أن تركيا لا تخطط لأي إجراء عدائي ضد حكومة إربيل، مطالباً بهتشلي بأن يهدئ من روعه. هذا لا ‏يعني أن تركيا تتخذ موقفاً محايداً من مشروع الاستفتاء. الحقيقة، أن معارضة الاستفتاء تجمع كل عواصم ‏المشرق، من بغداد وطهران، إلى أنقرة، إضافة إلى الدول الغربية الرئيسة، بما في ذلك الولايات المتحدة، ‏الراعي الأهم لحكومة إقليم كردستان العراق.‏

المفهوم من الجميع، إن الاستفتاء، إنْ عقد، سيكون خطوة متقدمة على طريق استقلال الإقليم الكردي عن ‏العراق، على أساس أن كل الأطراف تتوقع أن تأتي نتيجة الاستفتاء بأغلبية لصالح تقرير المصير.‏

لا ينفي رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود بارزاني، هذا المسار المحتمل، ولكنه يقول، في الوقت نفسه، ‏إن تصويت الأغلبية في الإقليم على تقرير المصير لا يعني انفصالاً مباشراً عن العراق. في واقع الأمور، ‏يتمتع الإقليم حالياً بسلطات واسعة، تفوق صلاحيات الإدارة الذاتية في دول أخرى، ولكنها تقصر عن ‏الاستقلال. فبالرغم من الصلات المالية بين إربيل وبغداد، التي هي موضع نزاع دائم، تتمتع حكومة الإقليم ‏بسلطات تعليمية، أمنية، عسكرية، ضرائبية، وحتى التمثيل الدبلوماسي في الخارج. بمعنى أن الإقليم يبدو ‏مستقلاً إلى حد كبير، مقارنة بأي جمهورية حكم ذاتي روسية، مثلاً. قد يجادل أحياناً أن الاستفتاء لم يكن ‏له من ضرورة، وأن سعي مسعود بارزاني لعقده يتعلق بمسألة شخصية بحتة، في وقت تعاني رئاسته للإقليم ‏من فقدان الشرعية الدستورية، ويحيط به الخصوم الأكراد من كل جانب. ولكن الاستقلال القانوني، بالرغم ‏من ذلك كله، يبدو مشكلة، مشكلة للعراق ولدول الجوار الإقليمي، التي يقطنها أكراد، بهذا الحجم أو ذاك. ‏

انفصال الإقليم الكردي رسمياً هو خبر بالغ السوء للعراق، ليس فقط لأن هناك مناطق متنازعا عليها بين ‏بغداد واربيل، بل لأن هذا الانفصال سيشجع نزعات انفصالية أخرى، في وقت تعيش الوطنية العراقية أسوأ ‏حالاتها. تركيا، التي تحتضن أكبر نسبة من الأكراد بين شعبها، وتعاني من مواجهة دموية مع ‏الانفصاليين الأكراد منذ ثمانينات القرن الماضي، تخشى أن يشكل استقلال كردستان العراق سابقة تاريخية، ‏تطرح كل حدود دول ما بعد الحرب الأولى للتساؤل. وبالرغم من أن إيران حاولت في السنوات القليلة ‏الماضية استخدام الورقة الكردية في تركيا والعراق، إلا أن عودة الجماعات الكردية القومية في إيران إلى ‏العمل المسلح، أعاد المسألة الكردية في إيران إلى جدول هموم طهران وخصومها، على السواء، وإن وضع ‏احتمال انفصال كردستان العراق إلى جانب التشظي السوري، وسعي الأكراد إلى إقامة كيان ما في شمال ‏شرقي وشمال غربي سوريا، تصبح التداعيات الإقليمية أكثر تفاقماً. في كل الحالات، وبالنظر إلى التداخل ‏الهائل للجماعات العربية والتركمانية والكردية في شمال العراق والشمال السوري، فليس ثمة شك في أن ‏مساعي الانفصال في العراق أو سوريا ستولد نزاعات دموية، قد تستمر عقوداً طويلة، تفتح المشرق على ‏تدخلات دولية لا حصر لها. هذا، إضافة إلى الاحتمالات الواقعية لاندلاع نزاعات كردية ـ كردية داخل ‏الدولة الجديدة، حيث الانقسامات الكردية عميقة ومحتدمة، تشبه، إلى حد كبير، ما يعاني منه جنوب ‏السودان منذ استقلاله.‏

هذا كله من المعلوم من شؤون المنطقة بالضرورة. ولكن ما لا يذكر في كثير من الأحيان أن الحركة ‏الكردية القومية في العراق تعود إلى بدايات تشكل نظام ما بعد الحرب الأولى الإقليمي، وأن المسألة ‏الكردية في العراق لم تكن السبب الأبرز لعدم استقرار الدولة العراقية الحديثة، وحسب، بل ومثلت عبئاً ‏باهظ التكاليف على الدولة والشعب معاً، طوال ما يقارب القرن. بخلاف أكراد تركيا، حيث يصعب وجود ‏أغلبية كردية انفصالية، وحيث تقطن أغلبية الأكراد خارج مقاطعات الأغلبية الكردية، وبخلاف أكراد سوريا، ‏حيث لا توجد مناطق أغلبية كردية معتبرة أصلاً، وبخلاف أكراد إيران، حيث عمل عنف الدولة البالغ ‏والانقسام الطائفي على كبح النزعات القومية الكردية، ثمة ثلاث محافظات عراقية تقطنها أغلبية كردية ‏حاسمة، تعيش حكماً ذاتياً موسعاً منذ ما يقارب العقدين، على الأقل.

تطور الحكم الذاتي في إقليم ‏كردستان العراق إلى كيان قومي مستقل، يبدو أمراً منطقياً، سيما إن أعطى أكراد العراق أصواتهم لصالح ‏هكذا خيار. مثل هذه الخطوة لن تمنح الأكراد دولتهم القومية، على غرار القوميات الأخرى في المشرق، ‏وحسب، ولكنها ستحرر العراق من عبء ثقيل الوطأة، كذلك.‏

ليست الحركات القومية عادة كائنات حكيمة ولا متعقلة. مسكونة بالأساطير المسوغة وأوهام المجد، تنزع ‏الحركات القومية إلى صناعة مقدساتها الخاصة، وتبالغ بالتالي في طموحاتها وأهدافها، كما تبالغ في ‏تصور أعدائها وخصومها. ولكن، إن كانت الحركة القومية الكردية تعلمت من مآسي الماضي القريب، ‏المتكررة، التي ساهمت القيادات الكردية في إنزالها بشعبها، كما ساهم الأعداء، فلابد أنها أصبحت أكثر ‏حكمة وعقلانية وتواضعاً.

يمكن لكردستان العراق، خلال عدد قليل من السنوات، أن تحقق هدف الاستقلال ‏بالفعل، بعد تفاوض مرض مع بغداد وتطمين دول الجوار، وبأقل الخسائر لكل الأطراف، إن اكتفت بحدود ‏محافظات الأغلبية الكردية الثلاث. السعي للسيطرة على كركوك ونصف محافظات ديالى وصلاح الدين ‏ونينوى، وتحول كردستان العراق إلى حاضنة للتنظيمات الإرهابية، لن يؤدي إلى الاستقلال، بل الحرب، ‏والحرب الطويلة، متعددة الأطراف. ‏

بغير ذلك، فلا أقل من تبلور رؤية جديدة للمشرق، قبل احتواء الطموحات القومية الانفصالية، الكردية ‏وغير الكردية، في دول المشرق الأربع، حيث تتواجد الشعوب الكردية وتوجد تعدديات إثنية وثقافية. كان ‏بناء دول تركيا والعراق وإيران وسوريا على أساس قومي، سواء بإراداة شعوب هذه الدول أو بقرار أجنبي، ‏دعوة صريحة لانطلاق الحركة القومية الكردية ودعوات الانفصال. وليس ثمة شك في أن الفكرة القومية في ‏المشرق حملت من نذر الشر، ما لا يقل عن وعود النهضة والازدهار. ‏

في نهاية الأمر، إن كان من حق العرب والأتراك والإيرانيين أن يقيموا دولهم القومية، فلماذا يحرم الأكراد ‏من الحق ذاته. ولكن تصوراً مختلفاً للمشرق، تصوراً يدفع غرور السيادة إلى الخلف، ويفتح الحدود أمام ‏الحركة الحرة للبشر والبضائع والأموال والافكار، يمكن أن يوفر مجالاً لتحقيق تجليات الهوية لكل شعوب ‏المنطقة وجماعاتها الإثنية والثقافية. وعندها، عندها فقط، يمكن أن تصبح دعوات الانفصال القومي في ‏هذه الدولة أوتلك بلا معنى ولا مسوغ، ولا مستقبل.‏

 

نشر المقال هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :133,486,948

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"