في ضوء أحاديث تيتورينكو آخر سفراء موسكو في بغداد حتى الاحتلال، ما مدى ضمان وجدية وصدقية العروض الروسية لتفادي غزو واحتلال العراق؟!‏

سامي سعدون

خدعة حيازة العراق لأسلحة الدمار الشامل واستخدامها ذريعة لعدوان أميركا وغزوها للعراق واحتلاله وتدميره عام ‏‏2003، هي عنوان لسلسلة لقاءات توثيقية تابعناها من خلال قناة روسيا اليوم، والبرنامج الناجح (قصارى القول) ‏للاعلامي المبدع والمعروف د.سلام مسافر، وذلك باستضافة المعنيين والشهود واللقاء بأبرز المفتشين والمراقبين ‏والعاملين مع اللجنة الخاصة التي شكلها مجلس الامن برئاسة رالف ايكيوس لنزع وتجريد العراق من السلاح النووي ‏المزعوم؟

 

ومن اللقاءات التي عرضت في 4 نيسان/ ابريل 2017  ذلك الذي جرى مع اخر سفير روسي في بغداد حتى عشية ‏الاحتلال، المستعرب فلاديمير تيتورينكو الذي كان مستشاراً في السفارة الروسية في العام 1994 ومن ثم سفيراً لدى بغداد ‏ليس لكفاءته وانما، حسب قوله، لمعرفته بلوجستيات الغلق وترحيل الموظفين والرعايا الروس (!) وهذا اعتراف بأن موسكو تعلم ‏مسبقاً بالعدوان والغزو، وكانت مهمته قبل ان يصبح سفيراً تمثيل روسيا في متابعة غلق ملفات نزع أسلحة الدمار الشامل ‏‏"المزعومة لدى العراق" ومراقبة اعمال اللجنة الخاصة، وقد شارك في نشاطات وحملات فرق التفتيش!

ان حيازة ‏العراق على الأسلحة المحرمّة.. اكذوبة، حسب اعتراف تيتورينكو في هذا اللقاء، مؤكداً تقصّد الاطالة من قبل اللجنة ‏الخاصة اذعاناً لإرادة واشنطن ومن معها ودور هؤلاء في تشجيع العراق على انتاج وحيازة الأسلحة ببناء وإقامة محطات ‏نووية ومن ثم تدميرها وكل ما يتصل بها قبل إكمالها!

وقد جاءت هذه الاعترافات متأخرة وفاقدة الأهمية بعد اعتراف ‏الجناة واصحاب الشأن وابرزهم الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، ورئيس الحكومة البريطانية توني بلير، وصدور ‏(تقرير لجنة (تشيلكوت) البريطانية.

والاعتراف هذا لن يعفي تيتورينكو ولا حكومته من تحمّل وزر المشاركة والتواطؤ فيما ‏حلّ بالعراق من دمار واحتلال، فموسكو هي من وافقت على القرار 687 والقرار 660 واستخدام القوة ضد العراق وفق ‏البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، والموافقة على اللجنة الخاصة، والمشاركة الروسية البارزة في اعمالها وحملاتها ‏التفتيشية، ومثالهم الاسوأ المفتش نيكيتا سميدروفيتش، الذي كان عدائياً اكثر من الأميركان، والذي قال عنه ‏تيتورينكو "انه كان يخدم مصالح واشنطن ويرضي ايكيوس وهو يعمل لإطالة عمل اللجنة الخاصة والتفتيش"!، حتى أن الأستاذ طارق عزيز سأل بريماكوف، في احدى ‏زياراته لموسكو، عن سبب عدائية سميدروفيتش والمفتشين الروس عموماً ‏وانحيازهم للأميركان دون وجه حق؟! فأجاب بريماكوف: كان سميدروف موظفاً في قسم الأسلحة المحظورة في وزارة ‏الخارجية براتب لا يصل الى 100 دولار شهرياً، ومع اللجنة الخاصة لايقل راتبه عن 10 آلف دولار إضافة الى مخصصات ‏خطورة وايفادات وأجور طلعات تفتيش يتحملها العراق، واضاف مبتسماً: فمن مصلحته وامثاله ان لا ينتهي التفتيش وعمل ‏اللجنة الخاصة في العراق.

وقد سمعنا خلال ترددنا على مجلس الامن انه تم ادخال أولاد سميدروفيتش واولاد وزير ‏الخارجية كوزريف في مدارس خاصة في نيويورك! فما هو فرق تيتورينكو عن مواطنه سميدروف؟ ألم يكن باستطاعته ‏التلميح لمن عدّه صديقه، وهو مدير دائرة الرقابة الوطنية، اللواء المهندس الأستاذ حسام محمد امين، ووضعه في صورة ما يحاك من تآمر ‏على العراق من خلال اللجنة الخاصة ومفتشيها الجواسيس؟ لا سيما وانه يمثل روسيا، احد الأعضاء الخمسة الكبار في ‏مجلس الامن، وانه مكلف، رسمياً، بمراقبة ومتابعة اعمال اللجنة الخاصة، والذي يفترض فيه ان يكون موضوعياً وحيادياً ‏ولديه قدر من الشجاعة لقول الحقيقة وليس دفاعاً عن العراق، الذي لم يتخل عن صداقته للروس وتفضّيلهم على الغير في ‏التعاملات المختلفة وبالذات اقتصادياً وفي مجال التسليح، اذ كان ذلك احد أسباب نقمة الولايات المتحدة والغرب على ‏العراق!

علما أنه لم يكن هذا هو اللقاء الأول مع تيتورينكو، اذ سبق له ان ظهر في ذات البرنامج في كانون اول/ ديسمبر 2013 ‏، وكذلك في برنامج (رحلة في الذاكرة) في نفس القناة الروسية، ولم نسمع في اللقاء الجديد سوى اجترار رواياته السابقة .‏

 

عروض النجاة الروسية!‏

أما المبادرات الروسية أو (فرص النجاة) الروسية لإنقاذ العراق من الدمار والاحتلال التي أوردها تيتورينكو بتحامل وتجنٍّ ‏على الحكم الوطني في العراق وقيادة الرئيس صدام حسين.. مما يتطلب المناقشة والمحاجاة والرد على التخرصات والتحامل على ‏الحكم الوطني في العراق وقياداته المخلصة، والمبادرات ثلاث:‏

الأولى، نقلها رئيس المخابرات الروسية، يفغيني بريماكوف، الى الأستاذ طارق عزيز في لقاء سري في ميناء العقبة ‏الأردني عام 1991، تنص على الاتفاق على غلق كل الملفات ورفع الحصار على ان يتعهد العراق بتعويض خسائر روسيا بـ ‏‏100 مليار تسدد من النفط العراقي! وعندما سئل عن ماهية خسائر روسيا، وكيفية التنفيذ؟ تهرّب قائلاً "ان تفاصيل ‏الصفقة سيتضمنها كتابه عن العراق!" (وهو الكتاب الذي وعد باصداره منذ تركه بغداد عشية الاحتلال عام 2003، ولم ‏يصدر حتى اليوم!

الثانية، ادعى تيتورينكو في اللقاء الاول انه هو شخصياً من نقلها الى الرئيس صدام حسين  وبحضورطارق عزيز. وفي اللقاء الجديد ‏قال ان وزير الخارجية (كوزريف) هو من نقلها! وتتضمن مشروعاً لرفع الحصار! وقال تيتورينكو "ان صدام قد رضى ‏بها وهذا ما فهمته من عيونه" وادعى انه قال له "والله هذه خوش خطة" ولكنها لم تعجب طارق عزيز فرفضت! وسماها ‏‏"خطة انقاذ روسية لسحب فتيل الحرب الاميركية على العراق" وهي تقضي بـ "إدخال العراق مع ايران في منظومة ‏دفاعية خليجية مشتركة" وادعى انها حظيت بموافقة حكام الخليج العربي وايران وأميركا! وادعى انه بعد الرفض تكلم ‏بحدة مع الأستاذ طارق محملاً إياه مسؤولية اضاعة فرصة للنجاة وتجّنب الحرب!

الثالثة، كانت رسالة شفهية من الرئيس فلاديمير بوتين حملها بريماكوف الى الرئيس صدام حسين قبل اشهر من ‏الاحتلال، وبحضور السيدين طارق عزيز وسعدون حمادي خلاصتها "تنازل صدام عن السلطة مؤقتاً، وبعد شهور تنظم ‏انتخابات نظيفة باشراف الأمم المتحدة يشارك فيها حزب البعث وفي حالة الفوز يعود الرئيس صدام" وقد رفض صدام  ‏ومما قاله "ان هذا الاقتراح غير مقبول وغير صحيح وليس فيه مصداقية ولا ضمانات، والأميركان يخدعونكم فلا امان لهم‏‏". ‏

 

لماذا الرفض اذا كانت الخطط  الروسية جادة ومضمونة! ‏

لقد حصل العدوان  الكارثي أمام مرآى ومسمع العالم اجمع ،وان الجميع مساهمون فيه بشكل واخر وبالذات روسيا كونها ‏تعد من أصدقاء العراق وبإمكانها استخدام "الفيتو" لمنع استخدام القوة المفرطة، وما حصل من استباحة ودمار ودم لم ‏يتوقف حتى اليوم! ومجيء تيتورينكو لتبرير موقف بلاده المتواطىء والمشارك واستعراض عنترياته الشخصية كي ‏يستعيد وظيفته الدبلوماسية والترويّج لكتابه المبني على ما في مخيلته من بهلوانيات ووخطط مرتبّة لن يعيد الأمور لما ‏كانت عليه، ولن تقنع رواياته المزعومة هذه العارفين والمتخصصين من ساسة ومفكرين ومحللين.. إنها مزاعم كان هدفها توفير ‏مادة لأصحاب الضغينة والمتصيدين في الماء العكر للاساءة لعراق ما قبل الاحتلال وقيادته الوطنية المعروفة.

وقد رد ‏بعض المنصفين، ممن عاصروا وكانوا على مقربة مما حصل آنذاك، مجمعين على ان مجمل ما طرح في هذه اللقاءات مبالغ ‏فيها وخالية من اي جديد وتفتقر الى الاقناع، كما ان تيتورينكو لم يعزز رواياته، ولم يبرر تحاملّه على العراق وقياداته ‏المخلصة بأي دليل!

وللامانة التاريخية ولتعاملنا عن قرب مع تيتورينكو يوم كان معاوناً للسفير خلال عمله لسنوات في ‏البعثة الروسية في بغداد، ولمتابعتنا للموقف الروسي من العراق منذ ثمانينات القرن الماضي وبالذات فترة التسعينات لابد ‏من المحاججة وتثبيت الحقائق التالية:‏

‎‎‏1 ـ لا وجود لخطط ومبادرات روسية حقيقية وجادة ومضمونة لتجنيب العراق حربا ًمدمرة كانت كل الوقائع تثبت انها ‏قادمة، وان العراق حاول في السر والعلن تجنبها، مستنجدا بكل الاصدقاء، اوربيين وغيرهم وعلى رأسهم روسيا، وكذلك ‏المنظمات الاقليمية والدولية، وحتى مع الاميركيين، ولكن دون فائدة، فالولايات المتحدة وكل الطامعين بالنفط العربي ‏والعاملين على وضع خارطة تقسيمية جديدة للمنطقة تخدم مصالحهم واطماعهم، كانوا يدركون ان تحقيق ذلك لا يتم بدون ‏الشروع باحتلال وتدمير العراق والإطاحة بنظام الرئيس صدام حسين، اذ ان هذه القوى كانت وراء مماطلة فرق التفتيش ‏بإصدار قرار خلو العراق من اسلحة الدمار الشامل لاتخاذ هذه الاكذوبة، والصلة بالإرهاب، ذريعة لشن حربها على العراق.

كانت القيادة وعموم الشعب العراقي مقتنعين من ان قوى البغي والشر بقيادة الولايات المتحدة ستنفذ مخططها في اسقاط ‏الحكم الوطني مهما فعل العراق وقدم من تنازلات، وحتى لو قبل بكل شروطهم واستسلم لهم تماما! فالحرب كانت قادمة ‏لا محال، وهم بذلك لن يحترموا اية وساطة او اية خطة من اي كان، وهذا ما حصل فعلا وانتهى بالتدمير والاحتلال الغاشم.                      ‏‏2ـ ان الروس يدركون هذه الحقيقة، فلو كانت لدى روسيا خطة مضمونة ومقبولة من كل الأطراف لماذا تجهض؟! ولماذا ‏يكلف تيتورينكو بنقل المبادرة الأهم للقيادة العراقية ولم يحملها سفير المهمات الخاصة الروسي المتجول، نيكولاي ‏كارتوزيف، الذي كان سفيرهم في بغداد والذي عمل تيتورينكو بمعيته! ولماذا لم تناقشها القيادة الروسية مع وزير ‏الخارجية العراقي د. ناجي الحديثي، اذ نفى مساعدوه ومنهم السفير د. قيس محمد نوري وجود مثل هذه الخطة في مقال ‏منشور على هذا الرابط

 http://wijhatnadhar2.blogspot.com.tr/2013/12/blog-post_4949.html

 متسائلا فيه بغرابة "فمن اين جاء بالخطة المزعومة؟ ولماذا لم يبلّغ بها سفيرنا في موسكو آنذاك د. ‏مزهر الدوري والذي رد مفنداً الكثير مما ادعاه تيتورينكو، في هذا الرابط

 http://wijhatnadhar2.blogspot.com.tr/2013/12/blog-post_1650.html

مضيفاً، أي تيتورينكو ان "العراق عام 2001 تقدم بمشروع اقتصادي كبير ‏تبلغ قيمته 40 مليار دولار لصالح الروس وذلك لبناء وإعادة ما دمّر في العراق، ولم يحصل أي تجاوب"؟! وخطة بهذه ‏الأهمية لماذا تخفى على الرأي العام اذا كانت حقيقية وليست من نسج خياله؟ وكيف عرف بترحيب اميركا وايران وحكام ‏الخليج العربي؟! ولماذا لم نسمع بذلك من اشقائنا العرب او من اصدقائنا الروس، حينما كانت الوفود العراقية الرفيعة تترد على ‏موسكو باستمرار؟! ثم لماذا لم يشر اليها في حديثه لنفس القناة الروسية في نيسان/ ابريل عام 2011  عندما تحدّث عن ‏فشل أميركا في العراق وزيف ديمقراطية السلطة العميلة التي اقاموها في بغداد، وفداحة الخسائر جراء الاحتلال ومقتل ‏اكثر من مليون عراقي، مؤكداً ان واشنطن وراء الفتنة الطائفية وتمكين ايران لتنفيذ اهدافها في العراق! وهو حديث ‏يختلف تماما عما جاء في حديثه الجديد فما الذي تغيّر؟!

‎ ‎‏3 ـ الولايات المتحدة لا تحترم الروس حتى في ظل العلاقة القوية مع الرئيس ميخائيل غورباتشوف الذي قضى على ‏المعسكرين الشيوعي والاشتراكي ليوفر لاميركا "فرصة تأريخية " للانفراد كقوة وحيدة في العالم!! فمتى كان الأميركان ‏يحترمون مقترحات وخطط الروس؟! الّا يتذكر السفير تيتورينكو مبادرة الرئيس غورباتشوف لإيقاف عدوان 1991 التي ‏قبلها العراق بعد مناقشتها مع الاستاذ طارق عزيز الموفد الى الكرملين في 19 شباط/ فبراير من نفس العام، حيث ‏تبادلنا في الكرملين التهاني وسط الزهو الروسي ومطالبة احد معاوني الرئيس بـ "اقامة تمثال من ذهب ‏في بغداد لـلرئيس غورباتشوف لنجاحه بايقاف عدوان 1991!" وفي نفس الليلة التي اعلن فيها، من موسكو وبغداد، عن ‏توقيع الاتفاق بعد ابلاغنا انه اخذ موافقة صديقه بوش الاب هاتفياً وبعد عودة الوفد ووصولنا عمان في نفس الليلة اعلن ‏عن بدء الأميركان الهجوم البري الغادر بضرب القطعات العسكرية المنسحبة من الكويت، فأي صديقٍ مُهانٍ هذا! ثم لماذا ‏يلقى اللوم على العراق ونظامه الوطني وكأن الغزاة الاوباش بريئون من جرائمهم بحق العراقيين والشعوب المظلومة ‏الأخرى؟! متناسيااً دور روسيا المتواطئ وسياسة موسكو المصلحية على حساب الحلفاء والأصدقاء، ومنهم العراق، وهذا ‏ما عكسه الكتاب الذي اصدره  بريماكوف انذاك بعنوان (حرب يمكن ان لا تتم) والذي دافع فيه عن روسيا غورباتشوف ‏وألقى اللوم على العراق والتذرّع ان "طارق عزيز جاء اثناء عدوان 1991 الى موسكو بدون صلاحيات مما اضطره الى ‏العودة ثانية الى بغداد فجاءت الموافقة العراقية متأخرة"! وهو تبرير واهٍ وتغطية للدور الروسي ودفاع مبطن عن الغدر ‏الأميركي، وهذا ما فضحه اكثر من محلل منصف، وقد ردّ الاستاذ طارق في مؤتمر صحفي آنذاك بقوله ان "بريماكوف ‏كذاّب وسيأتي الوقت المناسب لفضحه" وعلا نجم المخضرم بريماكوف، آنذاك، ليتولى رئاسة المخابرات ثم وزارة الخارجية ‏فرئاسة الحكومة! ومما يؤيد ذلك ما أكده سفير روسيا السابق في الكويت، بافل اكوبوف، من ان بريماكوف الذي كان يحمل ‏رسائل لصدام وغيره قد فشل! و"ان صدام كان جاهزا للانسحاب وان هناك إمكانية لحل سلمي ولكن أميركا لم تكن تريد ‏ذلك وكان هدفها الوصول الى الخليج العربي" واعترف اكوبوف من ان تصويت موسكو على قرار استخدام القوة ضد ‏العراق، هو قرار خاطيء مكّن الأميركان من تحقيق هدفهم بدخول منطقة الخليج".    ‏

‏4 ـ هل نسي تيتورينكو، وخلال وجوده في السفارة في بغداد، مبادرة وزيره كوزوريف عام 1994 والذي استجاب ‏فيها العراق لمقترحه بتطبيق الفقرة 22 من القرار 687، أي رفع الحصار الجائر! وذلك بعد اعتراف موقع من الرئيس ‏صدام حسين ومصدق من البرلمان العراقي، بالحدود الجديدة المفروضة مع الكويت! اذ جاء الوزير كوزوريف ومعه الوفد ‏العراقي برئاسة طارق عزيز وهبط بطائرته الخاصة في قاعدة الرشيد العسكرية شرق بغداد رغم حظر الطيران، وحضر الجلسة ‏البرلمانية التي عقدت لهذا الغرض، والذهاب في اليوم التالي الى نيويورك حيث سلم الاعتراف الى رئيس مجلس الامن ‏وكانت آنذاك مندوبة الولايات المتحدة مادلين اولبرايت فما الذي حصل بعد استجابتنا؟ قبض الروس وكوزوريف ‏شخصيا الثمن، ولم يرفع الحصار! اذ بقي كوزريف سنتين اخريتين وزيراً للخارجية بعد ان كان امر اعفائه قيد الصدور! ‏وها هو اليوم يعمل مع احدى شركات الادوية الأميركية ويحمل الجنسية (الاسرائيلية)!

مواقف الأصدقاء الروس هذه ليست ‏جديدة، ففي العهد السوفيتي السابق ورغم ارتباط البلدين الصديقين بمعاهدة دفاع مشترك وسعة حجم التبادل التجاري، اذ ‏رفض السوفييت، قبيل اندلاع حرب الثمان سنوات بين ايران والعراق تنفيذ عقد لـ (اطارات طائرات هليكوبتر ومواد ‏احتياطية) مدفوعة الثمن وواجبة التسليم قبل بدء الحرب فماطلوا ورفضوا التسليم! كما لم يسع الاتحاد السوفييتي لإيقاف ‏هذه الحرب! ومع هذا ظل العراق وفياً لصداقته ومخلصاً لعلاقاته الوثيقة مع الروس رغم "اللدغات المتكررة".

‏5ـ ان الروس، مع الاسف لم يفوا بتعهداتهم ولم يحرصوا على اصدقائهم وحلفائهم، فباعوا العراق وصوتوا على ‏قرار استخدام القوة ضده وفق البند 7 من ميثاق الامم المتحدة لقاء 4 مليار دولار من دول الخليج العربي لميخائيل ‏غورباتشوف ووزير خارجيته انذاك ادوارد شيفارنادزة، وقد انفضح الامر في الوقت الذي كان يوجد فيه وفد عراقي ‏رفيع المستوى في موسكو، حصل على تطمينات الكرملين بعدم السماح بضرب العراق، ولكن الذي حصل ان الروس‏، بدلاً من استخدام الفيتو، صوتوا على قرار ضرب العرا ق، عشية مغادرة الوفد العراقي ! وهذا ما اعترف به رئيس البنك المركزي الروسي، فيكتور ‏غيراتشينكو، الذي ذكر ذلك في كتابه واكده في لقائه في برنامج (رحلة في الذاكرة) الذي ‏بث في مايس/ مايو 2017 بقوله "ان وفدا سعوديا/ اماراتيا زار موسكو بعد احداث الكويت عام 1990 وطلبوا من ‏الروس التمسك بالحياد وعدم مساعدة العراق بأي شيء تحت مسمى عدم التدخل، لقاء 4 مليار دولار تسلم 2 مليار نقدا‏، والنصف الاخر لتغطية استيراد مواد للصناعة النفطية الروسية، وان بريماكوف ومعه وفد خاص زاروا السعودية وانهوا ‏الاتفاق حول تحويل هذا المبلغ". والروس لم يكتفوا بالسكوت وانما صوّتوا على قرار ضرب العراق!

ولعل من المفارقات، ‏ووفقاً لمصدر موثوق، فإن دول الخليج العربي اعتبرت هذا المبلغ دينا وليس هبة وطالبت الروس بالدفع، ولم يتنازل الخليجيون حتى عن ‏الفوائد، فدفع الروس المبلغ بكامل فوائده! وحتى من العراق اخذوا 4 ملايين دولار حملها مبعوث قال ان الرئيس يلتسين هو ‏الذي بعثه وانه سيعمل على رفع الحصار!

والخيانة حصلت مع يوغسلافيا التي تعرضت لعدوان الناتو بقيادة اميركا في ‏نيسان/ ابريل عام 1999 وادى الى تشظيها الى عدة دول، اذ اعلن عن بدء العدوان وطائرة بريماكوف رئيس وزراء ‏روسيا الاتحادية في الاجواء الاميركية لحضور اجتماعات لجنة روسية/ اميركية مشتركة! وبلع الروس الإهانة والغدر ‏وسكتوا على ضياع ابرز حلفائهم في البلقان!

وها هي موسكو اليوم وفي عهد بوتن الرئيس القوي تفرّط بحلفاء وأصدقاء ‏في منطقة نفطية واستراتيجية هامة وبالمصالح الحيوية الروسية، العراق وقبله افغانستان يحتلان ويدمران وكذا الحال مع ‏ليبيا واليمن، وفي الطريق سوريا!                                            ‏

‎ ‎‏6 ـ  لا يمكن حمل تقولات واتهامات السفير تيتورينكو للحكم الوطني وقياداته المخلصة وبالتحديد استهدافه الأستاذ طارق ‏عزيز الاّ على انها جزء من الحملة المسعورة التي شنت، ومازالت، بشكل واسع وصرفت عليها ملايين الدولارات للاطاحة ‏بنظام الحكم وتسقيط وشيطنة النظام والإساءة الى رئيسه وقياداته البارزة، ومنها بالذات الأستاذ طارق عزيز، فوطنيته ‏واخلاصه وايمانه بعقيدته العروبية وشجاعته في الدفاع عن العراق والامة العربية وثباته واخلاصه ووفائه لقيادته ‏ومبادئه، وعجز الأعداء بعد الاحتلال عن ثنيه وزعزعة ايمانه باغرائه بالمال والحرية من السجن التي رفضها رغم ‏شيخوخته وكثرة وخطورة امراضه فدفع حياته ثمناً لها. وهذا هو السبب في التجنى والتحامل عليه والتي تندرج تحتها ‏اتهامات تيتورينكو والتي يدحضها عدم وجود خطة روسية لتجنيب العراق العدوان والاحتلال من الأساس، وقد حاول، بخياله ‏الخصب و"لغاية في نفسه"! حبك خيوط الخطة المزعومة والتباهي بحنكته الدبلوماسية! في اقناع الرئيس صدام ‏حسين بها، والادعاء بقراءته في عين الرئيس انه قبلها! وقول سيادته "خوش خطة والله" لولا إحباطها من قبل الاستاذ ‏طارق! وعنترياته المزعومة في إلقاء محاضرته التأنيبة الغاضبة بقوله "انه من الغباء عدم اقناع صدام بقبول خطتنا" ‏من دون ان ينتبه الى هذا التناقض الفاضح، فاذا كان الرئيس صدام قد قبلها، فالحاجة الى الاستاذ طارق لإقناعه قد انتفت؟ ‏وهل ان الأستاذ طارق الوحيد في القيادة الى جانب الرئيس صدام كي يحملّه المسؤولية؟!

ثم هل يجرؤ تيتورينكو شخصياً أو ‏أي مسؤول روسي، من التطاول ومخاطبة الاستاذ طارق، المعروف بشجاعته في الدفاع عن قضايا الوطن والامة، بهذا ‏الاسلوب؟ ألم يكن الرئيس صدام والاستاذ طارق من اصدقاء الروس وممن حرصوا على ديمومة العلاقة مع موسكو، ‏وتفضيلهم الشركات الروسية على غيرها في تسلم حصص كبيرة من النفط وفق مذكرة التفاهم، واعطائهم  اكبر الحقول ‏النفطية في الجنوب للمساهمة في الاستثمار خلال الحصار! رغم خذلان الروس للعراق وبيعه! فما المصلحة في تحريف ‏رسائل موسكو للقيادة العراقية اذا كانت تصب في تجنيبنا ويلات الحروب؟

ألم يكن الروس مشاركين في قرارات هذه ‏الحروب او على الاقل لم يعارضوها؟! ثم من يصّدق الخيانة وممن.. الاستاذ طارق؟ اين هو اليوم؟!

ألا خسئتم، فلولا ايمانه ‏ووطنيته واخلاصه للعراق والامة لما حكموا عليه بالاعدام ولما بقي في سجنه حتى النهاية؟ وهل يعقل ان خطة سياسية ‏من هذا النوع لا يعلم بها وزير الخارجية؟! مما يؤكد عدم وجودها الا في خيال تيتورينكو، وهذا بدوره يبطل كل ‏الاتهامات، ويسخّف ما ورد من مزاعم واساءات وادعاءات وعنتريات فارغة.             ‏

‏7ـ التجني على نظام الحكم الوطني والاساءة لقياداته الشجاعة والمخلصة لم يعد غريباً في ظل عصر الطغيان الاميركي ‏بانتهاء الحرب الباردة وخنوع الجميع بعد تدمير واحتلال العراق عام 2003، وذلك لتبرير ما جرى بعد انفضاح اكذوبة ‏حيازة العراق لأسلحة دمار شامل، وبعد افتضاح حقيقة الاستراتيجية الاميركية الاستعمارية بهدف بسط الهيمنة على ‏المناطق الهامة والنفطية والتحكم بها، بالغزو المباشر او العدوان المسلح وبدعوى الحرب على الارهاب، او تحت غطاء ‏اشاعة الديمقراطيات، ونموذجها الفاشل، العراق الديمقراطي الحالي الذي يتصدر قائمة الدول في التخلف والفساد والدموية ‏وشيوع الجريمة واللصوصية، فعراق ما قبل الاحتلال صار شماعة يعلق عليها العملاء والحاقدون والطارئون والسفلة كل ‏قذاراتهم وإساءاتهم واكاذيبهم وجرائمهم، ظناً منهم ان ذلك سيقلل من مسؤولية فشلهم ويغطي على فسادهم وجرائمهم ‏وسياساتهم العدوانية، والسفير تيتورينكو من تلك الجوقة الظالمة بزعامة الولايات المتحدة، فهو واحد من مجموعة ‏الدبلوماسيين الروس المستعربين الذين يجيدون العربية أمثال الراحل د. فكتور بوسافاليوك، السفير في بغداد ووكيل ‏وزارة الخارجية فيما بعد، الذي شهد وعاش معنا عدوان 1991 على العراق، الاّ ان تيتورينكو قد ينفرد عنهم بكونه غير ‏راكز وسلوكه لا ينسجم وكونه يمثل دولة كبرى كروسيا، مثلما لم يكن موضوعيا ًولا منصفاً، وبقصد، في حديثه ومزاعمه ‏على العراق الصديق، ومتجنياً على القيادة الوطنية التي احترمته رغم اساءاته وتصرفاته الصبيانية والمشاكل التي اوقع ‏نفسه بها، والتي لا تنسجم وأبسط مقومات عمل الدبلوماسيين، وهل هذا هو رد الجميل للعراق وللاستاذ طارق عزيز.. لأنه ‏لم يفضح أو يطرد كما حصل له مع قطر الذي عين فيها سفيراً لبلاده بعد العراق، فطرد من الدوحة لسلوكه غير المقبول ‏وتورطه بمشاكل مماثلة، بل اقل بكثير مما فعله في العراق، ومعاقبته من قبل الخارجية الروسية بتنزيل درجته الى ما دون ‏السفير! فعنترياته المزعومة ودفاعه عن روسيا وتغطية تخليها عن العراق الصديق وادعاء الدفاع عن العراق ومحاولة ‏تخليصه من الحصار وتجنيبه العدوان والغزو العسكري باختلاق ما اسماه بــ "خطة الانقاذ الروسية" وجهوده الشخصية ‏لاقناع العراقيين بالقبول، وسوق الاساءات الرخيصة والاتهامات الباطلة للنظام الوطني وقياداته المخلصة والشجاعة ‏بدعوى الرفض للمحاولات الروسية، علّه يستعيد ثقة الخارجية به وبما يروّج لكتابه المزعوم الذي ينوي نشره، فهو دعاية ‏وتعريف بمؤلفه المزعزم، وتمهيد وتقديم لما حواه من تقّولات واتهامات واباطيل ضد عراق ما قبل الاحتلال! وقد فاته ‏ان مثل هذه التخرصات والاساءات بحق الحكم الوطني والمساس بقياداته المخلصة.. لم تعد لها أهمية ولا أية قيمة، ولن ‏تنفعه في الترويج لكتابه اذا ما نشر، فالحقيقة بانت ولن تحجبها مزاعم لا أدلة عليها ولا حجج تدعمها.

 

*يمكن الاطلاع على نص ما دار في اللقاء مع تيتورينكو كاملاً هنا

 

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :133,413,644

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"