الأصول الفكرية الغربية للتجزئة العربية.. مقدمات الاستهداف

لصورة: البابا أوربان الثاني، راعي الحروب الصليبية.

قيس النوري

لكي نستقرئ الجديد في السياسات الغربية تجاه الوطن ‏العربي، استقراءً موضوعياً، لابد من العودة إلى الأصول الفكرية ‏وراء تلك السياسات، لأن الجديد يولد في شق مهم منه من رحم ‏القديم، وفي شق آخر من المستجدات التي تطرحها الاحداث ‏وتطوراتها، بمعنى هناك ثابت وهناك متغيرات، والثابت هنا هو ‏الأصول الفكرية (المنطلقات)، والمتغير هو ما يفرزه المستجد ‏ليطوع ويصب في خدمة وديمومة الثابت.‏

ولعل من أبرز الثوابت في الاستراتيجيات الغربية في ما يتعلق ‏بتعاملها مع أجزاء الوطن العربي، يتمثل بالإصرار على ‏ديمومة الفعل السياسي المنظم باتجاه تعميق حالة التجزئة ‏وترسيخها بصيغ وحدات سياسية وكيانات لا تملك بمفردها ‏عناصر القوة الكافية للدولة القوية المتمرسة ، مفتعلة في الوقت ‏نفسه (وفق سياسات محسوبة) حواجز متعددة عملت على ‏تكريسها وصولا بها الى الدولة القطرية التي تبلورت واتضحت ‏معالمها عقب الحرب العالمية الأولى بالخطوط الحمراء التي ‏نعرفها ، ولغرض فهم أبعاد سياسات الغرب في عالمنا المعاصر ‏، لابد لنا من العودة الى الأصول الفكرية المؤسسة لها، تلك ‏الأصول الفكرية التي عبرت عنها التنظيرات الغربية التي ‏استندت  إليها مجمل الحركات الاستعمارية وما أفرزته من نتائج ‏تجزيئية يعيشها ويعاني منها العرب ، وسوف يعانوها مستقبلا ‏في حال غياب المدركات الضرورية للوحدة كرد عملي وحيد ‏لبناء المستقبل .‏

كانت التجزئة دوما هدفا أساسيا تمحورت حوله كتابات ‏المفكرين الغربيين عند تناولهم الشرق بشكل عام، والوطن ‏العربي بهويته العربية الإسلامية بشكل خاص، لأهداف ‏ومبررات عديدة كانت بدايتها أهمية الموقع بأبعاده الاستراتيجية، ‏ومن ثم لتصاغ الأهداف ذاتها في العصر الحديث لاعتبارات ‏أملتها طبيعة التطور الذي وصلت إليه حضارة وتقدم الشمال ‏الغني ومستلزماته الضرورية، وفي المقدمة منها الطاقة.‏

بالعودة الى الجذور نجد أن الكتابات الموضوعية التي أتسمت بها ‏دراسات الغربيين عن العرب في القرن الثامن عشر، كانت قد ‏ارتبطت ولا سيما في المراحل المتأخرة منه، بمتطلبات التوسع ‏الاستعماري الأوربي ، فقد انتهت في الواقع الى تكوين عقل ‏جبار، مثل عقل فولني (‏Volney) الذي يشكل كتابه رحله في ‏سوريا ومصر عام 1787 عملا فكريا قائما على التحليل الدقيق ‏للجوانب السياسية والاجتماعية ، لكنه يصب كنصائح في عصب ‏التوسع الأوربي بقد ما كان مشحونا بالروح العدائية التحريضية ‏تجاه العرب والإسلام كدين ، ثم ينتهي الى اعتبار الوطن العربي ‏مكانا مرشحا يحتمل أن تتحقق فيه الطموحات الاستعمارية.‏

مع مجيء حكومة الإدارة تتجدد أمال فرنسا في مد نفوذها الى ‏مناطق أخرى من العالم، بما فيها الوطن العربي، وكان بطل هذه ‏الآمال نابليون الذي قام بالحملة الفرنسية عام 1798، وينبغي ان ‏نتذكر أن فولني هو الذي كان من الناحية المبدئية قد حضر ‏للحملة المذكورة،باعتماد نابليون اعتمادا كبيرا في حملته تلك ‏على دراساته، وهذا ما يؤكد المضمون التوسعي لتلك الدراسات.‏

أما شاتو بريان فيقول "لم تدر الحروب الصليبية حول أنفاذ ‏كنيسة القيامة حسب، بل دارت حول معرفة من الذي سينتصر ‏على هذه الأرض".‏

يعني الانتصار هنا الاستحواذ على خيرات هذه الامة التي ‏تفيض أرضها لبنا وعسلا، وهو بهذا لا يخرج عن الأساس الذي ‏وضعه البابا أوربان الثاني عام 1095 في خطبته بمدينة كليغمو ‏جنوب فرنسا لحث الصليبيين على التوجه الى بيت المقدس عندما ‏قال "ليست هذه الحرب لاكتساب مدينة واحدة فقط، بيت المقدس، ‏بل هي لكسب أقاليم أسيا كلها مع غناها وخزائنها التي لا ‏تحصى، فاتخذوا وجهة القبر المقدس، وخلصوا الأراضي ‏المقدسة من أيدي المختلسين، واملكوها لذواتكم، فهذه الأرض ‏كما قالت التوراة تفيض لبنا وعسلا".‏

وشاتو بريان لم يتردد في القول بأن الفتح الغربي للشرق ليس ‏فتحا، بل حرية، والشرق في نظر لا مارتين يولد من جديد، ‏وتمتلك أوربا الحق في حكمه "هذا النمط من الحكم محددا بهذه ‏الطريقة، ومؤسسا بوصفه حقا أوربيا، سيتكون بشكل رئيسي من ‏حق احتلال أرض أو أخرى، وكذلك الشواطئ من أجل أما أقامه ‏مدن حرة هناك، او مستعمرات أوربية ومرافئ تجارية"

إن طبيعة وجوهر السياسات الغربية في الشرق والوطن العربي ‏تحديدا ، تنطلق من هذا الفكر المؤسس الذي ينظر الى الثقافة ‏العربية الإسلامية باعتبارها ثقافه عدوة ، وهذا العدو لابد من ‏محاربته واحتلال أرضه وتجزئتها كلما استطاع الفكر ‏الاستعماري سبيلا الى ذلك ، هذا كله ينطلق من نظرة استعلائية ‏وأحساس عنصري بالتفوق جوهره ودوافعه (المركزية الغربية) ‏تجاه الأطراف ، وضمن هذا السياق نستطيع أن نفهم احتلال ‏الجزائر عام 1830 وإنكلترا لعدن 1839 والتخطيط لاحتلال ‏مناطق أخرى من الوطن العربي لاسيما بعد الجهود الاستكشافية ‏التي قام بها المختصون وبشكل خاص عالم الانثروبولوجيا بوركا ‏ردت (‏Burckhardt‏) الذي طاف الجزيرة العربية والنيل.‏

كان الفكر الغربي بشقه الاستعماري متحفزا على الدوام لتطويق ‏أية بادرة نهوض على الأرض العربية ، بغض النظر عمن ‏يتولاها، فهي خطر على الحضارة الغربية ، وهذا الخطر ‏يستوجب التحريض بشن الحرب لإجهاض هذه البادرة ، ومن ثم ‏فرض منطق الغرب وتوجهاته ، والهدف دائما الاستحواذ ، وقد ‏عبر عن هذا الامر بدقة المفكر الاقتصادي فردريك ليست (Frederick List ‎‏) بشأن إدارة محمد علي في دراسته التي أعدها ‏سنة 1834 وخصصها لآسيا ، أكد فيها ليست أن "القضية هي ‏ليست قضية عرب ، بل قضية مصير الحضارة الاوربية في أسيا ‏،فاذا ما تمكن محمد علي من إقامة إدارة ليبرالية استطاع أن ‏يسيطر على هذه البلاد الواسعة حتى الخليج العربي عند مجرى ‏دجلة والفرات"، ثم يضيف "على المانيا أن تلعب دورا فعالا ‏في يوم ما ، وأن يكون لها نصيب في اقتسام أسيا لخير الحضارة ‏الاوربية".‏

إذن نحن إزاء بنية فكرية متكاملة وبدلالة هذه البنية يتحدد الموقف ‏الغربي من العرب، لقد صورت هذه المنطقة في حيثيات هذا ‏الفكر باعتبارها خواء مهلهلا، من ثم فهي تفتقد الوحدة الجغرافية ‏والوحدة الإقليمية والوحدة التاريخية والوحدة الحضارية.‏

إن هذه الرؤية ليست فقط تبريرية، وإنما في حقيقتها مارست عن ‏عمد نوعا مكشوفا من التغييب لحقائق معاكسة تماما، وتلغي ‏بنظرة استعلائية قرونا طويلة من العطاء الإنساني للحضارة ‏والهوية العربية الإسلامية ومنجزاتها الرائدة في مجالات الفكر ‏والعلوم والفلسفة والمنطق.‏

في العصر الحديث يؤكد بلفور منذ عام 1910 في محاضره له ‏التباين، كما يزعم، بين الشعوب الاوربية والشعوب الأخرى، ‏ولاسيما الشعب العربي المصري، ليتخذ منه مبررا للهيمنة ‏فيقول "الأمم الاوربية فور انبثاقها في التاريخ تظهر تباشير ‏القدرة على حكم الذات ، لأنها تمتلك مزايا خاصة وهذا ما يفتقد ‏إليه سكان الشرق" ثم يأتي كرومر فيتحدث عن العروق ‏المحكومة ، وهذه حسب قوله "لا تمتلك في ذاتها القدرة على ‏معرفة ما هو خير لها- الافتقار الى الدقة- الذي يتحلل بسهولة ‏ليصبح انعداما للحقيقة ، في حين الأوروبي ذو محاكاة عقلية ‏وتقديرية للحقائق خال من أي التباس".‏

بعد كل هذا، أليس من المبرر أن يخضع العربي للغربي؟

‏كان كرومر قد قدم جوابا، وكان الجواب عمليا ، إذ تمثل ‏باحتلال انكلترا لمصر، ثم تأتي الحرب العالمية الثانية ‏بأبرز نتائجها من صعود الولايات المتحدة الأميركية الى قمة ‏الهرم الغربي لتصبح مركز القيادة الغربي وتتصدر على غيرها ‏في قيادة الغرب بكل أبعاده الاستعمارية ، وهي لم ترث الابعاد ‏الاستراتيجية في الفكر الغربي فقط، وانما زادت عليه بتأسيس ‏مفاهيم أميركية جديدة شكَّلت إضافات لا تخرج في جوهرها لكل ‏ما سبقتها اليه أوروبا، وهذه المرة كان، وما زال، الانسان العربي ‏والوطن العربي هو الهدف كما كان منذ عهد البابا أوربان الثاني‏‏.‏

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :133,489,415

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"