عالم فريدمان المسطح

جعفر المظفر

توماس فريدمان في كتابه (عالم مسطح) يكتشف أن الأرض التي أكد العلم على كرويتها، عاد العلم والإقتصاد ليجعلها مستوية ومسطحة.  

هو فقط يدعوك لأن تقف داخل بناية لشركة أبل أو أخرى لشركة ويندوز لكي ترى من هناك وتسمع حوارا بين مدير أميركي في نيويورك وموظف هندي يعمل في فرع الشركة في الهند لتظن أنهما يعيشان في نفس المكان وفي ذات اللحظة، وإن المسافة بينهما ليس فيها تحدب يمنع الرؤيا المباشرة أو يعرقل الحوار بين اثنين يبدوان كأنهما يجلسان سوية على مصطبة واحدة.

وبينما يحتفظ العالم بجميل تسطيح الأرض لشركات عملاقة جعلت المسافة بين نيويورك وبومباي تبدو كالمسافة بين عينيك وشاشة الكمبيوتر، فإنه لم يحقق لفريدمان أمنيته أن يكون العالم مسطحا سياسيا أيضا فظلت المسافة بين بغداد وواشنطن بعيدة ومحدبة أيضا.

إن الكمبيوتر يمكن تصنيعه في الهند وأميركا، بنفس المواصفات، وكذلك سندويتشات ماكدونالد، لكن الأمر مع الديمقراطية يختلف كثيرا، وهذا ما ثبت وتأكد واقعيا في العراق، فلو انا أخلينا السبيل لنوايانا غير الحسنة بالإدارة الأميركية، وإستبدلناها بأخرى تقول أن بوش الإبن كان من طراز غاندي، وأنه كان مهموما بغيظ العراقيين من دكتاتورية صدام حسين، مثلما حرَّكته غريزته التي ورثها من أبيه لفعل الخير، يوم إستشاط هذا الأخير غضبا حينما سمع من امير الكويت نداء (وابوشاه).

لو انا فعلنا ذلك وتركنا لسذاجة عقولنا وغفلة نوايانا ان تظن أن إدارة بوش كانت جاءت بالفعل لإقامة الديمقراطية، فسيكيفينا عندها أن نحاسبها على خطأ الحساب وليس على خطأ النوايا، ونعلن حينها، مثلما أعلنا يومها ان الديمقراطية ليست سلعة للإستيراد والتصدير، ثم نطلب من الكونغرس الذي شرَّع قانون (جاستا) ضد إرهابي السعودية لغرض تعويض ضحايا نيويورك ان يشرع لنا أيضا قانونا على غراره، وليسمه (عراقستا)، تاركين لضمائرهم ان تقدر حجم التعويض الذي تسببت به إدارة بوش وجناح المسيحين الصهاينة في الحزب الجمهوري، للعراق وللعراقيين، إن لم يكن بسبب إلقاء حمولتها من القنابل فبسبب إلقاء حمولتها من الديمقراطية.

وهل سنكون مغالين إن قلنا أن قنابل الديمقراطية التي ألقتها أميركا على العراق من الجو كانت أشد تخريبا من صواريخ توما هوك واشد ضررا من قنابل بي 52؟!

إن أميركا ترمب وكذلك بريطانيا تيريزا ماي وكذلك فرنسا مارين لوبين، كل هؤلاء، وربما ستنضم إليهم ألمانيا اليمين المتطرف بقيادة فراوكة بيتري، قد أعادوا الإعتبار لنظرية العالم المدور والأرض الكروية، وهي النظرية الضد لتلك التي حاول فريدمان، وخلفه الكثير من العوْلَميين، وحتى الأممين بنائها، أي نظرية العالم المسطح الذي يتقبل فكرة أن يكون سوقا لترويج البضاعة السياسية بنفس الطريقة التي تتم فيها ترويج منتجات آبل (من أجهزة الكمبيوتر وليس من بول البعير) وبنفس الطريقة التي يجري فيها عمل همبركر ماكدونالد، تلك التي تٌصّنَّع في نيويورك وتنقل جوا إلى فروع الشركة في عمان والصين لكي يكون لها ذات النكهة والطعم ولا تتحول تدريجيا إلى سندويتشة فلافل.

إكتشفت أميركا ترمب ان العولمة قد أضرَّت بخزينتها وصناعاتها وسوق العمل .. لقد رحلت معظم شركاتها إلى الصين والهند، وإكتشف أوروبا أيضا ان ليبراليي العولمة من أحزاب اليسار ووسطه قد فتحوا الحدود أكثر من اللازم للمهاجرين من ابناء العالم المقهور وفي المقدمة منه خير أمة أخرجت للناس، الذين جلبوا معم فكرة أن أوروبا سوف تكون مسلمة في أقل من 10 سنوات، مثلما جلب بعضهم أدوات ووسائل زعزعة المجتمع الأوروبي لكي يقبل أهلوه أما ان يكونوا مسلمين او يدفعوا الجزية وهم صاغرون!

الآن ثمة من يهمس في اذن فريدمان، لقد سقطت نظريتك يا سيدي المفكر، فالعالم المسطح قد عاد كرويا. إنظر بنفسك من شرفة في الطابق العلوي لواحد من أبراج ترمب، في نيويورك او شيكاغو او لاس فيغاس، فسوف ترى عمال آبل وقد بدأوا تفكيك المعمل هناك في بومباي وسترى عمال فورد وهم يحملون ما غلا ثمنه وخف وزنه في رحلة العودة إلى العالم المٌكوَّر.

حينما يعيد فريدمان مراجعة نظريته حول العالم المسطح سيشرح لنا كيف ولماذا رجع العالم كرويا على يد ترمب وتيريزا ماي وغيرهما من السلف الصالح، ولماذا قرر الترمبيون العودة من العولمة، ولماذا قرر التيريزيون الإنسحاب من أوروبا، ولماذا سينسحب الفرنسيون والألمان من الأفكار والنظريات اللبرالية التي جعلت أوروبا عاجزة عن غلق حدودها أمام موجات الهجرة من البلدان التي جعلتها العولمة أمكنة غير صالحة للعيش.

إن بلدان العالم الثالث، وهي الحديقة الخلفية لبلدان العالم الأول خاصة، عليها أن تجد نفسها بنفسها في نفسها أولا، ولا تتحول إلى حقل تجارب، سواء تَسَطَّح العالم أم تَكَوَّر.

 

نشر المقال هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :133,410,569

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"