الفايننشال تايمز تكتب عن #البصرة: آمال عاصمة #العراق النفطية تذهب في اللهيب

إيريكا سولومون

ترجمة: ماجد مكي الجميل

خاص بوجهات نظر

عندما بدأ منير العمل متعاقدا للنفط في البصرة في عام 2007، كان العراق تحت الاحتلال ويعاني تمرداً وحشياً. مع ذلك، كما يقول بأسى، كان العراق أفضل من الوضع الذي ينبغي عليه التعامل معه الآن. “في ذلك الحين إذا كانت لدينا مشكلة، كنا نذهب إلى الأميركيين لمعالجتها. لم يجرؤ أحد على التسبب في المتاعب”.

 

منير هو واحدٌ من عشرات رجال الأعمال المُحبطين في هذه المدينة الجنوبية، الذين ينتظرون قبض مستحقاتهم من حكومة تتعامل مع أزمة ديون خانقة. ما يزيد الطين بلة، أن التقارير التي تتحدث عن عمليات سطو، واختطاف، واعتداء قد زادت في الوقت الذي يجفُّ فيه المال المستخدم لتهدئة القبائل والميليشيات المحلية.

يقول منير، الذي طلب تغيير اسمه لأسباب أمنية: “كيف يمكن لمستثمر أجنبي حماية نفسه، بينما أنا، المحلي، لا أستطيع حماية نفسي؟”.

منذ الاحتلال في عام 2003 بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا، حافظت الطبقة السياسية في العراق على نظام إجتماعي هشّ من خلال شبكة من المحسوبية توزع عقود الشركات، والوظائف الحكومية إلى سبعة ملايين شخص، ومعها الخدمات مثل دعم الوقود والمواد الغذائية.

ذلك النظام بدأ يتعرض للضغط في الوقت الذي استولت فيه “داعش” على نحو ثلث البلاد في عام 2014. لكن مقاطعة البصرة المنتجة للنفط، البعيدة عن الخطوط الأمامية، كانت تتعامل مع تهديد أكبر يواجه ذلك النظام: انهيار أسعار النفط الذي خفض الإيرادات الحكومية نحو 60 في المائة. النظام الانسيابي من الفساد والمحسوبية الذي ساعد العراق على البقاء واقفا يواجه الآن خطر الانهيار.

في السابق، كان السكان المحليون في البصرة والمناطق المحيطة بها يأملون بعد أعوام من الحرب، والاحتلال، والتمرد، أن مدينتهم يمكن أن تصبح دبي التالية. لكن اليوم لا توجد ناطحات سحاب متلألئة. القنوات المائية التي تعبر المدينة، التي جعلت البصرة قبل عقودٍ تكتسب اسم فينيسيا الشرق الأوسط، هي اليوم خضراء ومليئة بمياه الصرف الصحي. مياه الحنفيات غير صالحة للشرب والشاحنات تفرِّغ النفايات السامة في الحقول المُغبرَّة حيث يلعب الأولاد كرة القدم في الوقت الذي يتوهج فيه لهب النفط على بعد مسافة قريبة.

يقول كاظم سليمان، أحد نشطاء المجتمع المدني الذي ينظم احتجاجات أسبوعية ضد الحكومة: “يعيش أهل البصرة تحت سحابة سوداء - من التلوث والفساد على حد سواء. بعد عام 2003 كان من المفترض أن تعيش البصرة نهضة حقيقية (...) كيف يمكن أن نكون راضين عن هذا الوضع؟ بالطبع نحن لسنا كذلك”.

قبل انهيار إيرادات النفط، دفعت الحكومة مليارات الدولارات لشركات النفط العالمية، التي كانت بدورها تدفع للمتعاقدين، الذين كانوا في ذلك الحين يوظفون أهل المنطقة وغالبا ما كانوا يدفعون رشا للعشائر والميليشيات المرتبطة بأحزاب سياسية قوية. الآن، يذكر أهل المنطقة حوادث أطلق فيها مسلحون النار على مخيمات المتعاقدين في حقول النفط لأنهم لم يستطيعوا دفع الرشا، أو رجال الأعمال الذين باعوا سياراتهم الفاخرة ليتجنبوا لفت انتباه اللصوص.

إذا كان صعود “داعش” عمل على تعرية إخفاقات قوات الأمن في التعامل مع الأقلية السنية المحبطة في العراق، فإن البصرة هي تحذير لما سيحدث عندما ينفرط عقد نظام الرعاية الأوسع ويؤثر على بقية البلاد، بما في ذلك الأغلبية الشيعة.

 

اختبار النظام

يقول مسؤولون محليون ورجال أعمال إن بطالة الشباب في البصرة ربما هي أعلى من 50 في المائة. لذلك إزدهرت تجارة “بلورات الميثامفيتامين” بسبب إنجذاب الخريجين العاطلين عن العمل إلى الإدمان ولكون المهنة مربحة نسبياً. عددٌ كبيرٌ آخر من الرجال ينضمون إلى فرق المتطوعين الشيعة، المعروفة باسم الحشد الشعبي، التي تحارب “داعش”. ولا أحد من سكان البصرة يريد تصور ما سيحدث إذا عاد الآلاف من الشباب المسلحين من الحرب إلى المدينة دون وظائف.

يقول منير “ليست لدينا أي مخاوف مع داعش هنا، لكن معظم المقاتلين الذين تطوعوا جاؤوا من البصرة، معظم الشباب الذين قتلوا، الذين أصبح أطفالهم أيتاماً، هم من البصرة. لذلك سيكون هناك تأثير. العاطلون عن العمل قنبلة موقوتة (...) إذا استمرت الأمور على هذا النحو، فإن استقرار المدينة سيتأثر للغاية”.

كثير من الأحزاب السياسية كانت لديها فصائل مسلحة قبل وصول “داعش”، وهي فصائل اندمجت الآن مع قوات الحشد الشعبي. هذا الغطاء القانوني، فضلا عن تحويل قوات الأمن إلى الخطوط الأمامية، يعني أن الميلشيات تستطيع العمل علنا - وبقوة أكبر. بعضها يضغط على المقاولين من أجل عمولات لا يستطيعون تحملها بعد الآن.

اشتكى أحد المسؤولين في المحافظة من أن سحب الفرقة 14 في البصرة لمحاربة “داعش” جعلت “المافيات” تتولى السيطرة. يقول، “أنا نفسي عدت إلى المنزل لأجده تعرض للنهب ذات مرة هذا الصيف”، مضيفا أنه أطلق النار على اللصوص ليخيفهم ويُبعدهم.

 

مخاوف المقاولين

يحاول العراق الخروج من أعوام إنتاج النفط المنخفض. على الرغم من مصائب البلاد، إلا أن الاستثمارات عززت من إنتاجه على نحو جعل العراق ثاني أكبر دولة منتجة في منظمة أوبك بعد السعودية، إذ يضخ ما لا يقل عن 4.5 مليون برميل يوميا. وكان واحداً من الدول المنتجة التي تضيف النفط إلى سوقٍ مُتخمة، ما أبقى الأسعار منخفضة عند نحو 50 دولاراً للبرميل من خام برنت. لكن مستوياته العالية من الإنتاج – زادت أكثر من 80 في المائة منذ عام 2011 - لم تُنعش خزائن الشركات العاملة ولا الحكومة المركزية كما فعلت في الأعوام السابقة. أسعار النفط التي انخفضت أكثر من النصف منذ منتصف عام 2014 تعرقل اقتصاد العراق، والحملة ضد “داعش” في الشمال جعلت المشاكل المالية في بغداد أسوأ، ما أدى إلى تضخم عجز ميزانيتها العام الماضي.

حتى عام 2014 كان رجال الأعمال الأجانب ومن أهل المنطقة يعتبرون الرشا ثمناً لممارسة الأعمال التجارية. الآن الوضع يمكن أن يكون مثيراً للأعصاب. أحد الدبلوماسيين ـ طلب عدم الكشف عن اسمه ـ يقول إن أحد المديرين الذي يدير عقود لواحدة من شركات النفط الكبيرة طلب نصيحته بعد إلغاء عقد محلي بسبب سوء الخدمات. تلقى هذا الموظف مكالمة هاتفية من أحد أفراد الميليشيات: “قالوا له: ’ننصحك بإعادة العقد مع تلك الشركة، لأنهم يدعموننا في الحرب المقدسة ضد “داعش”. إذا لم تقم بإعادة العقد معهم، فإنك تستهدف قوات الحشد الشعبي بالكامل. هل أنت بصراوي حقيقي، أم لا؟‘“.

نصحه المسؤول مناشدة الميليشيا لتقديم خدمات أفضل، لتجنب المشاكل مع صاحب عمله إذا أعاد تعيينهم. “لقد ذهبوا من خلال دائرة العطاءات، والذي حدث هو أن الشركة حصلت على العقد مرة أخرى”. الهجمات التي يشنها رجال العشائر على المحليين، وعلى بعضهم بعضا، تتزايد أيضا. كثير من الشركات تفضل تقديم الرشا لرجال العشائر غير المتعلمين الذين يعيشون في الأحياء الفقيرة بالقرب من حقول النفط، بدلا من تقديم الوظائف لهم.

يقول رجل أعمال محلي آخر: “في عام 2009، كان هؤلاء الرجال يسعدون برشوة تبلغ 100 دولار. بعد ذلك أصبحت عشرات الآلاف. الآن بعضهم اعتاد على الحصول على الملايين”.

المقاولون الذين يبنون المنشآت لشركة نفط قد يشترون، مثلا، الأسمنت من العشائر بضعف سعر السوق. يقول رجل الأعمال: “سابقاً، كانت هذه الشركات تجني الكثير من المال، لذلك لم يكن أحد يهتم بما يدفع من رشوى. الآن - هوب ! وبطريقة سحرية ! - اختفت الأموال. لكن لديك هؤلاء الرجال الفاسدون المعتادون الآن على ذلك النمط من الحياة”.

أمير الفايز، وهو شيخ محلي وعضو البرلمان، يقول إن المشكلة الأكبر هي الأضرار التي لحقت بالمجتمعات بأكملها، بسبب خسارة الرجال لوظائفهم وعدم تمكنهم من دفع الإيجار أو سداد القروض. ومع زيادة الإحباط، يتصاعد الجدل أحيانا إلى اشتباكات خطيرة إذا كان الرجال من عشائر مختلفة.

يتدخل الشيوخ لتسوية صفقات من أجل سداد الديون، أو الديَّة [يُسمي المقال الديِّة بـ “أموال الدم”] إذا قُتل رجال من العشيرة، لكن هذا يصبح أصعب في هذا الوقت الذي أصبحت فيه الأموال أكثر ندرة. حسب تقديرات، أمير الفايز، فأن الاشتباكات ارتفعت أكثر من الثلث في العام الماضي. يقول: “عدم الحصول على المال من الدولة سبَّبَ كل هذه المشاكل. هذا يؤثر في جميع عناصر المجتمع”.

لا تستطيع الشركات أن تفعل شيئا يذكر حتى تقبض مستحقاتها. ووفقا لأحد المسؤولين في هيئة الاستثمار الإقليمية، فإن شركة نفط الجنوب التي تديرها الدولة مَدينة لشركات المقاولات في البصرة بـ 370 مليون دولار. وعدد من رجال الأعمال البارزين في المدينة متفائلون بأن بغداد ستدفع لهم في عام 2017. يقول، علي جبار، الذي يملك ثلاث شركات للمقاولات وفندقاً، إنه سيقبل اقتراحاً بإصدار سندات حكومية لرجال الأعمال بدلاً من الدفعات.

لكن رجال الأعمال الأصغر حجماً كانوا أقل حماساً، قائلين أنهم خسروا ما يراوح بين 30 و80 في المائة من موظفيهم، وفي بعض الأحيان يتم إفراغ مخيمات بالكامل من العاملين بالقرب من حقول النفط. إلهام خضر، هي إحدى ضحايا تلك التداعيات. تعيش إلهام في كوخ شبه مكتمل يطل على مساحات شاسعة من الأراضي المخصصة للتنقيب عن النفط. وحدها مع ثلاثة أطفال صغار، ليس لديها مياه جارية صالحة للشرب ولديها فقط 2500 دينار (ما يعادل نحو دولارين) لتتدبر بها حياتها خلال الأسبوعين المقبلين.

جلبها زوجها إلى هنا عندما تم تعيينه حارساً لشركة مقاولات فرعية في مخيم قريب. لكن في عام 2015 قررت الشركة إغلاق المشروع. الآن مالك منزلها الآيل للسقوط يهدد بطردها إذا لم تتمكن من دفع الإيجار، بينما زوجها البالغ من العمر 47 عاماً يقاتل “داعش” بعيداً مع قوات الحشد الشعبي. تقول: “كان الانضمام للحشد بدافع مالي في الأغلب. يقولون لدينا كل هذا النفط (...) لكن ماذا قدم لنا من خير؟”

 


نحن بحاجة إلى أن ننتفض

في وسط مدينة البصرة، حشد من الشرطة يطوقون 50 متظاهرا خارج مبنى المحافظة. رائحة مياه الصرف الصحي المنبعثة من القنوات تحلق فوق رؤوسهم وسط أصوات متنافرة تردد هتافات ضد الحكومة.

أحمد، مراهق نحيف من منطقة الزبير، يحمل لافتة كتب عليها "الفساد وداعش وجهان لعملة واحدة". يقول إن كثيراً من السكان لديهم أقارب مصابين بأمراض الرئة والسرطان، وهم يعتقدون أنها بسبب التلوث. وعندما ينشرون غسيلهم، فإن الضباب الدخاني المنبعث من حقول النفط القريبة يحوله، أحياناً، إلى اللون الأسود.

يتابع "أنا لا أفهم لماذا شخص مثلي يعيش على حافة واحد من أغنى حقول النفط، ولا أستطيع حتى العثور على أبسط وظيفة. كيف لا يدرك الناس ذلك؟ نحن نتعرض للسرقة والحرمان. نحن بحاجة إلى أن ننتفض".

في الصيف الماضي، حققت المظاهرات بعض النجاح. تظاهر الآلاف ضد انقطاع الكهرباء والخدمات السيئة في الوقت الذي ذوت فيه البصرة في واحدة من أسوأ موجات الحر التي تصيب المنطقة. هذا الصيف، كان انقطاع الكهرباء ضئيلا، والاحتجاجات تلاشت.

سليمان الذي ينتمي إلى حركة تسمى "مستمرون"، يعتقد أن الاحتجاجات ستتصاعد مرة أخرى. لديه نشطاء جدد من الشباب أكثر حماسا، مثل كريم علي، البالغ من العمر 23 عاما، الذي يقول إن الحركة أنقذته من اليأس الذي كان يشعر به في الماضي.

هذا الناشط الشاب، الذي يلبس على الموضة، يحمل شهادة جامعية في الهندسة المعمارية. لكن مع عدم وجود خيارات أخرى، يقول إنه كان محظوظاً للعمل مصفف شعر - وهو عمل جيد بما فيه الكفاية لدفع تكاليف النقل من أجل نشاطه. في مكتب حركة “مستمرون” يناقش، سليمان، خططاً لزيادة الوعي بشأن مخاطر المخدرات مثل “بلورات الميثامفيتامين”. يقول: “البصرة نفسها تشعر بالضياع. عدم وجود فرص وكل هذه المشاكل (...) هذا الوضع يجعلك تفعل أي شيء، مقايضة روحك مقابل ألف دولار”.

قبل الانضمام إلى الاحتجاجات في الصيف الماضي، تدرب للانضمام إلى قوات الحشد الشعبي، مثل العشرات من أقاربه. في البصرة، كثير من الأحياء الفقيرة مليئة باللافتات السوداء وصور الشباب الذين ماتوا وهم يقاتلون “داعش”.

علي لا يفكر في الانضمام الآن. يقول: “العنصر العسكري سينتهي، لكن العمل المدني سيستمر، وهذا ما يمكن أن يحل مأساتنا”.

تجد الأجيال الأكبر من الصعب أكثر التمسك بالأمل. عندما يجتمع البصراويون - في سيارات الأجرة أو المقاهي أو المنازل - تتحول المحادثات إلى الحنين إلى البصرة القديمة، أو أحدث شائعات الفساد.

أحد السائقين يتذمر وهو يتحدث مع أحد الركاب "أحيانا يكون الوضع سيئاً جداً، بحيث أريد المغادرة فقط. لكن في أوقات أخرى، هذا المكان يجرك إليه تماما".

يرد الراكب "المشكلة ليست الأرض. إنها الناس".

 

الأصل باللغة الانجليزية هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :133,412,125

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"