في عشق العراق

مرَّينا بيكم حمد واحنا بقطار الليل ... وسمعنا دك كهوة وشمينا ريحة هيل
«مهداة الى حنان ، صوت متلهف فاجأني في الغربة ليشكرني على واجب لا تكلفني تأديته أي جهد».

يمرُّ قطار الليل بك حاملا فيما يحمله همومك، ذكرياتك، وجوه أهلك وأصحابك، وحاملا معه: العراق.
تنساب إلى سمعك ترنيمة ناي بعيدة، تبدو قادمة من زمان آخر غير هذا الزمان مندفعة من ركن خفي في إحدى زوايا قلبك، ذاك الذي تركته هناك، عند عتبة الدار، يوم تغافلت عنه حين انحنيت لتحمل حقائب سفرك، فسقط منك.
 ...وتراك طفلا حافي القدمين تركض مطاردا فراشة ترى جناحيها الآن جيدا، فتصيبك الدهشة لأنك تدرك وللمرة الأولى أن أحدهما يحمل خارطة العراق.. والآخر قلبك.

تنتبه إلى أنك كبرت الآن ولا زلت تطارد ذات الفراشة.

تحس بنداوة الثيل الذي لامسته قدماك فتمر في جسدك ارتعاشة طفولية تذكرك بسعف نخلة في بيت بغدادي عتيق شهد أحلى ما في طفولتك، فتعلم الآن كما كنت متأكدا من قبل دوما أن لبغداد حضور واسع في دمك لا يعادله حتى وسع الفراغ المكاني الذي يفصل بينك وبينها الآن في غربتك.
ومن جديد تباغتك انشودة السياب..
لا تتذكر كم كان عمرك بالضبط يوم قرأتها للمرة الأولى، لكنك تعلم أنك لم تبذل أي جهد في حفظها، ومنذ فعلت وكلماتها تسترجعك كلما شاءت لتعيدك طفلا في حضرة العراق..

يطل عليك، هذا العزيز، ليسوي خصلات شعرك.. يلثم جبينك ثم يرسم قبلة على جرح صغير في أحد منكبيك.
تراه يدري الآن أنه يسكن قلبك
شوق يخض دمي إليه كأن دمي اشتهاء
جوع كجوع كل دم الغريق إلى الهواء
شوق الجنين إذا اشرأب من الظلام إلى الولادة
..

يزرعك الشوق هذه المرة في الموصل..
ويطالعك وجه أخيك ضاحكا وهو ينثر أوراق شجر الخريف على رأسك، تتذكر عشقك للون غابات نينوى في ذلك الوقت من السنة.. فتبكي، لأنك تدرك الآن أن خريف الموصل الذي تعشق يعود كل عام إلى تلك الغابات.. وأخيك من دونك.
تطل عليك الحدباء.. ويطرق سمعك صوت المؤذن فيها يعلن انتهاء صيام في يوم رمضاني حبيب جمعت مائدة افطاره وجوه أهلك وخلانك، وحملك عبقه إلى يومك هذا لتذكره وأنت جالس الآن في غربتك للافطار، وحدك.
تفاجئك نينوى.. بربيعيها.. مآذنها.. أجراس كنائسها.. وتراك تحدق في جدران (دير) قديم متسائلا عما إذا كان الزمان نفسه هو الذي بات يضرب نواقيسه مذ شغل رهبانه بطوائف المشتاقين التي صارت تمر على الدير كي تسأل عن الأحبة الذين رحلوا.. ويا.. "راهب الدير بالانجيل تخبرني، عن البدور اللواتي ها هنا نزلوا"..
..

يحملك الشوق إلى البصرة.. عروس المدائن.
تراها تنهض ثانية من الرماد لتودِعَ شط العرب أسماء الأحبة الذين احتضنهم ترابها.. تحدثه عن "مجنون" و"أم الرصاص" و"الفاو" التي تكسَّرت على أرضها نصال الغادرين الأولين، وتمسح بما شط العرب ما علق بوجهها من آثار الغادرين الذين تلوا.
تُحدِّث الشط عن النخيل، وجيكور، وأمسيات العشار.. عن أناشيد "أبي غيلان" وآهاته..

وتراك واقفاً أمام نصبه تحدِّق في الثقوب التي أحدثتها رصاص الغدر فيه، وذات السؤال الذي شغله يوماً يرن في بالك:
"إني لاعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون.. أيخون انسان بلاده؟!!
..

يسري دفء البصرة فيك.. وتحدق في انعكاس الشمس الغاربة على صفحة شط العرب متسائلا إن كان ما تراه من ألوان..(أطوال) حريرٍ ألقتها سفن السندباد.. عربون حب لـ(مدينة الفداء) قبل أن تبحر ذات فجر، حاملة إلي الدنيا بعضاً من طيب العراق.
..

يطل عليك العيد، بمراجيحه، و(شعر بناته)، و(عيدياته)، وفرحه..

تجد نفسك أمام باب الدار التي فارقت تنظر من وراء الشبابيك، فلا ترى أحدا في الداخل، لكنك تسمع صدى الضحكات التي ألِفْتَها منذ وعيتْ، فتطرق الباب بكل ما أوتيت من شوق وما من مجيب..

تنتبه إلى أنك إنما تحلم.. وأن الأحباب الذين تطوقك ضحكاتهم لا زالوا في تلك الدار.. صبيحة العيد.. بعيدين..
تدرك في تلك اللحظة والألم يعتصر كل ذرة منك إن ما يفصل بين الأحلام الحلوة والكوابيس المروعة خيط رفيع جدا.. يجتازه الحلم حين يستحيل عليه التحول إلى حقيقة.
..

تنساب إلى سمعك ترنيمة ذات الناي.. ثانية.
فتمرُّ أمام عيني ذاكرتك قباب المساجد الذهبية في كربلاء والنجف.. وتسمع خرير مياه شلالات (كلي علي بك)، وجداول (ابراهيم الخليل) في زاخو.

تستوقفك بائعة (نرجس) على طريق العمادية.. فيعيدك عطر ما تحمله .. ثانية.. إلى بغداد..

..
يختلط هديل الحمائم بصوت آذان الفجر.. وتصحو الذكريات على أصوات الباعة يفتحون ابواب محلاتهم في الأعظمية والمنصور وشارع الرشيد، فيدهشك قدرة تحول التفاصيل الصغيرة إلى حكايا سحرية..

فقط، لأنها تحدث في بغداد..
وتتساءل إن كانت شهرزاد لا تزال تقيم في إحدى الدور العتيقة.. وتخرج كل ليلة تجوب الشوارع ملقية على الأشياء بعضاً من سحر أساطيرها الغابرات.
..

يمر بك قطار الليل حاملاً، فيما يحمله، سنيَّ عمرك.. انعكاسات ملامح وجهك منذ ولدت.. إلى يومك هذا.. خطواتك الأولى.. كلماتك الأولى.. كل تفاصيل حياتك..

ترى ساحة مدرستك الابتدائية.. وجه معلمتك، حقيبتك المدرسية.. أول صداقة.. أول نجاح.. دفاترك المزروعة بألف حلم وحلم.. ذكريات أول يوم دراسة.. وآخر يوم حين فارقت صحابك.. على أبواب جامعة عراقية.. وخرجت.. كما فعلوا -حاملا ألف حلم وحلم تمد يدك كي تلحق بالقطار.. لأنك تدرك الآن أن للعراق حضور واسع في دمك.. لا يعادله حتى وسع الفراغ المكاني الذي يفصل بينك وبينه في غربتك..
وأن عتبة الدار.. هناك..

تنتظرك..
كي تعيد لك قلبك..

ذاك الذي سقط منك، حين انحنيت لتحمل حقائب سفرك.. وعراقك.. وموّال ليل برائح قهوة وهيل لم يفارق سمعك، منذ فارقت عتبة الدار..

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :134,150,029

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"