سلاماً أيها البعيد القريب!‏

جاسم الشمري

أيها الوطن المسافر في أعماق روحي ووجداني، كيف يمكنني أن أصف لوعتي ‏واشتياقي ولهفتي التي ملأت أركان روحي، ومسامات عقلي وفكري؟!‏

 

لا تظن يا وطني الجريح - حينما اضطررت للرحيل بعيداً عن حضنك الدافئ الآمن، ‏وربوعك الخضراء، وأرضك النقية - إنني زاهد بعشقك وحبك!‏

لكنها الأيام والأقدار تلعب بالإنسان كما تلعب الرياح بورق الأشجار عند هبوبها، ‏وعصفها!‏

ضياع، وحنين وغربة، وآلاف الأميال بيننا، وحدود ملغمة، وعصابات منظمة، ‏وجواز سفر صار بحد ذاته تهمة، ورغم كل هذه المطبّات والعوائق تبقى يا وطني ‏نبض قلوبنا، ونور عيوننا، ومهجة أرواحنا، والخيمة التي تسعنا جميعاً!‏

حاول شياطين الأنس دفعنا لضفة الموت والقتل والخراب، والعبث بك كما يعبثون، ‏واتهمونا – بسبب حبك- بالإرهاب لكننا صمدنا، لأننا تعلمنا منك الثبات والحزم!‏

هؤلاء الأشرار لا يعرفون منْ أنت بالنسبة لنا؟! وأنا لا ألومهم، فهم – ربما- ينظرون ‏إليك على أنك البقرة الحلوب التي تدر عليهم مليارات الدولارات!‏

وهم لا يدرون أنك الأم والأب والأخ والأخت، والحبيبة والصديق، وكل القيم ‏والمبادئ، وأنت الكون الشاسع من أقصاه إلى أقصاه!‏

يا وطني أنت بالنسبة لنا نبع للحنان والحب والنقاء، ولا يمكن أن نتنعم بحياتنا بعيداً ‏عن ترابك الطاهر!‏

رغم التفجيرات، ورغم الخراب، ورغم الاغتيالات والاعتقالات والإرهاب، ورغم ‏امتزاج مياه دجلة والفرات بدماء الأبرياء من أهلنا، ورغم كل المآسي ستبقى يا عراقنا ‏الحبيب أجمل وأطيب وأروع الأوطان! وستبقى روضة للحب جمعتنا - وستجمعنا ‏ثانية- في يوم من الأيام!‏

قالوا أرهقتك الكروب، وغيرتك الكوارث، ويبست قلبك الخطوب!‏

وأنا لا أستطيع أن أتقبل هذه الفرضية! فلا يمكن أن أتصور أنك تعرف الكراهية ‏والبغضاء لأحبابك الذين رووا أرضك بدمائهم، وباعوا أرواحهم رخيصة من أجلك!‏

لا يمكن أن أتقبل انك ترفضهم وتطردهم، ولا تحتضنهم! كيف ذاك، وأنت عراق ‏الحب والصمود والحضارة!؟

فلا يعقل أن قلب الأم يكون نبعاً للكراهية!‏

ولا يمكن تصور أن العطشان يفر من الماء إلى الرمضاء!‏

ولا يمكن تقبل استمرار حياة الإنسان من غير غذاء وهواء!‏

في زمن التفجيرات ربما يهرب بعض أبناءك شرقاً وغرباً، لكنهم مستغربون كيف ‏سمحت لهم بالرحيل، وهم أبناءك وروحك وحياتك؟!‏

منْ الذي علمك هذه القسوة يا وطني الحبيب؟!‏

منْ الذي نثر أوراقك الخضراء في عزّ الربيع؟!‏

منْ الذين استعانوا بالغرباء عليك، وحاولوا تدنيس طهرك؟!‏

يا وطني:‏

شرايين قلبي، فكري، آهاتي، أحزاني، أفراحي، أتراحي جميعها تناديك فلماذا الصمت ‏في زمن البوح والحضارة الزائفة؟!‏

متى سيكون موسم اللقاء، يا وطني الساكن في الأضلاع؟!‏

متى ستكون لحظات العناق يا بلدي السليب؟!‏

متى ستندمل جروحنا بتراب أرضك النقية؟!‏

متى ستغسل دموع الفرح همومنا؟!‏

أيها القمر الساطع في هذه الليلة الهادئة: أحمل أشواقي لتلك الديار، لتلك العيون ‏الكريمة، لتلك الأرواح النقية، لتلك المياه العذبة، لتلك البساتين البهية، لتلك الذكريات ‏التي توارت في قبور الظلم والغربة والاستبداد!‏

احملها – أيها القمر-  ولا تبخل عليّ، فما لي حيلة إلا سبيلك لعلي أستعير عيونك ‏لأرى بلدي كما تراه الآن!‏

أيها الوطن الجريح الحبيب: اشتياقي إليك أكثر من اشتياق الأرض الجدباء لمياه ‏الأمطار!‏

وأقوى من حلم العليل بالعافية!‏

وأشد من مصارعة الغريق لأمواج البحر العاتية!‏

وأشد من لهفة الأسير للحرية!‏

أيها الوطن البعيد القريب، الحبيب القاسي، يا جرحي وبلسمي، يا تاجاً يزين هاماتنا، يا ‏زينة نفاخر بها الدنيا، يا روحاً تملأ أجسادنا وعقولنا حباً وخيراً وأملاً، ستبقى عيناك ‏بحران من الأمل، ورموشهما قوارب النجاة إلى حيث اللقاء المرتقب في يوم ما في ‏هذا الزمن الغريب.‏

يا وطني: دقات الساعة تؤرقني، ترهقني، تقلقني، تخبرني أن السنون تجري من غير ‏أن نلتقي، فهل هذا قدرنا أن لا نلتقي؟!‏

أم أن الأيام ستجمعنا على ثراك في يوم من الأيام، لا أدري لكنني ما زلت أحلم باللقاء ‏لعله يكون غداً؟!‏

سلاماً أيها القريب البعيد، يا وطني، يا عراق.‏

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :133,412,839

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"