«هناك مسألة مهمة جدا، هي طبيعة الشخصية العراقية، هذه لم يجر الحديث عن مكنونها بشكل جيد. فلو استطاع الفنان الوصول إلى حالة التأزم المستمرة في الشخصية العراقية، لخرجنا بمدرسة محلية لها تناقضاتها وتنوعها الفكري والجمالي الخاص».
لم يشتغل الفنان التشكيلي العراقي محمد مهر الدين على اللوحة باعتبارها خامة بيضاء يمكن أن يرسم عليها ما يجول بذهنه كفنان فحسب، بل حاول أن يفهم الشخصية العراقية وقيمتها والتحولات التي طرأت عليها، لكي يتمكن من تقديم أعمالٍ مغايرة تجعله مؤسساً حقيقياً للحداثة التشكيلية العراقية بعد جيل الرواد.
تصريحه هذا يؤيد ما كان يصبو إليه، مضيفاً في أحد الحوارات التي أجراها معه الفنان كريم النجار، بأن الحروفية التي اعتمدها فنانون عراقيون كبار، ليست هي الهوية المحلية لهم. «صحيح هناك فنانون أبدعوا في الحرف العربي وتشكيلاته، وكوَّنوا أسلوبهم واسمهم، فمنهم من جدد في الخط مثل محمد سعيد الصكار، ومنهم من صاغه لوحة ذات دلالات جمالية وفكرية كضياء العزاوي وغيرهم. لكن التأكيد على استخدام الحرف في الكثير من أعمال الفنانين مغالطة مستمرة، تحمل إشكالية الوقوع في التكرار… فالفنان العراقي، سواء كان داخل العراق أو خارجه، لديه الكثير من الأفكار والأشياء والمفردات العراقية البحتة التي لم ترسم بعد».
مهر الدين الذي رحل الخميس الماضي عن عمر يناهز الـ77 عاماً، غيرت تحولات العراق من ملامح لوحته وحياته في الوقت نفسه، ففي آخر لقاء معه عام 2003، كان كل كلامه عن احتلال القوات الأميركية للعراق، وما يحدث في هذا البلد، كان مضطرباً ولا يعي ما يقول بسبب الإرهاق والتعب، إلا أنه بعد مدة ليست بالطويلة ترك العراق ليقيم كل هذه السنوات في عمَّان، وهو ينظر بعين الأسى لكل ما يحدث، هذه العين هي التي طبعت لوحاته الأخيرة بتفاصيل جديدة لم تألفها أعمالها منذ بداياته في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات.
ولد مهر الدين في مدينة البصرة عام 1938 وأكمل دراسته الابتدائية والثانوية فيها، ثم انتقل إلى بغداد ودخل معهد الفنون الجميلة وتخرج فيه عام 1959، ومن ثمَّ سافر إلى بولندا ودرس الفن هناك وحصل على شهادة الماجستير في الرسم والغرافيك.
يعد مهر الدين الذي تأثر برواد الحركة التشكيلية في بولندا وإسبانيا، واحداً من رواد الحداثة في الفن العراقي المعاصر، لاسيما في البحث عن فيزياء اللون في العمارة التشكيلية، كما يعد أحد أبرز التشكيليين العراقيين في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين.
أقام أول معرض له عام 1965 في بغداد، وكان متخصصاً بالغرافيك، ومن ثمَّ أقام معرضاً للأعمال التشكيلية عام 1967، و1978، و1980، لتتوإلى بعده معارضه الشخصية والمشتركة التي تجاوزت 30 معرضاً حتى آخر معرض له في عمان بدار الأندى للفنون.
الجوائز التي حصل عليها مهر الدين منذ بدايته وحتى يوم رحيله من الصعب إحصاؤها، غير أن أهمها الجائزة التقديرية بالمرتبة الثانية في المعرض العالمي للملصقات عام 1982، والجائزة الثانية للبينال العالمي للفنون بأنقرة عام 1986، والجائزة الأولى لمهرجان الفنون الثاني في بغداد عام 1988، وجائزة تقديرية لبينال العالمي للفن الاسيوي في بنغلاديش عام 1993، فضلاً عن الجائزة الوطنية للإبداع في بغداد عام 1998.
مهر الدين الفنان الذي مرَّ بمراحل كثيرة في رحلته الفنية التي تجاوزت 60 عاماً، يقسمها الفنان التشكيلي والباحث الدكتور كاظم شمهود إلى مرحلتين. ففي مرحلته الأولى كان فيها متقلباً في أسلوبه وتقنياته، متأثراً بكثير من رواد الفن الحديث، خاصة بأساتذته في بولندا عندما كان يدرس هناك في وارشو، الذين درسوا على يد ماتيس وبونار وسانبورسكي واريتموفسكي، الذي كان منتدباً لتدريس مادة الفن في معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1960.
في هذه المرحلة كان مهر الدين يستخدم مواد مختلفة من الأصباغ، مثل الزيت والاكريلك والورق والرمل والجص والصفائح المعدنية والخشب وقضبان الحديد والصور الفوتوغرافية وغير ذلك.. هذه المواد تركت ملمساً بارزاً على سطح اللوحة يعكس أحياناً ظلالاً أو كأنها جدران تآكلت موادها فتركت خربشات وحفر وخطوط مضى عليها الدهر، فضلاً عن ظهور أشكال محطمة كأنها أشلاء أو بقايا إنسان متفسخة وسط كومة من الوحل، غير أنها ظهرت بتقنية عالية من الجودة والمعالجات الإبداعية. وهذا ما يؤكده مهر الدين، إذ يقول إنه لدى عودته من بولونيا عام 1976 كان يمارس التجريب باستعمال مواد مختلفة، بغية التوصل إلى طريقة تعبير تميزه وتجعله قادراً على التعبير عن مضامين ذات تماس بالحياة المحلية والعالمية التي تتمثل بدور الإنسان، ومحاولات استلابه وتغريبه. «كانت أعمالي آنذاك ذات طابع مأساوي معاش. الانسجام اللوني يلعب دوراً كبيراً في الأعمال، كالأسود ومشتقاته والأزرق ومشتقاته (ليس هناك ثمة ألوان مفرحة) لأن المضامين كانت مأساوية»… أعمال مهر الدين في هذه المرحلة كانت تعبر عن الحس الوطني والثوري وقضية فلسطين والنضال والكفاح المسلح، لهذا جاءت عنيفة معبرة تتماشى مع تلك المرحلة التي يعيشها العالم العربي خلال سنوات الستينيات.
أما المرحلة الثانية فقد تعامل فيها مهر الدين مع سطح اللوحة كتعامل رواد الفن الحديث، وكانت السمة الغالبة غياب أي ملمح تشخيصي، لتطغي على أعماله السطوح اللونية والخطوط والأرقام والإيماءات والرموز والخربشات والمعالجات العفوية والتلقائية كما هي عند الفنان الإسباني تابيس الذي تأثر به مهر الدين، وكان يتحدث عنه في كل محفل فني. كما أنه استخدم مواد مختلفة في تقنياته من زيت وأكريليك وورق ومواد جصية وصور فوتوغرافية و غيرها. فنرى الحزوز والمساحات الفارغة وقشط بعضها لإخراج ما ورائها، وأحياناً نجد فوضى في الخطوط، فضلاً عن اشتغاله على لوحات ذات صياغات بنائية هادئة ونصوص بصرية، على سبيل المثال استخدامه الخط المستقيم الدقيق التنفيذ أو حتى الأشكال الهندسية الأخرى.
ومن وجهة نظر مهر الدين في هذه المرحلة أن الفنان أو الأديب يحاول دائماً صقل تجربته، وجعلها أكثر تأثيراً وتطوراً. فهو يمدها دائماً بعناصر جديدة، ويدخل عليها رموزاً وأشكالاً ونهجاً أكثر معاصرة. «كانت أعمالي في فترة السبعينات والثمانينات مباشرة وتقترب من الملصق الجداري «البوستر»، باعتماد طريقة الفوتوغراف والكولاج. وكنت أعتمد التشخيصية في أعمال آنذاك، غير أن أعمالي الحالية تتمثل فيها إشارات ورموز عن الإنسان (أثر الإنسان) مع اهتمام أكثر بالبناء المعماري (التشكيل)، فهو إذن اختزال… لوحاتي لا تمنح نفسها بسهولة للمشاهد، فهو يحتاج إلى مشاهدتها عدة مرات بغية التوصل إلى فك رموزها، وعلى ما أن هذه العملية تربوية، تتطلب من المشاهد بذل جهد أكبر للتوصل إلى معرفة اللوحة، أو فهم مضامينها إن أراد. يمكن القول إن فني للنخبة كما هو حال أغلب الأعمال الإبداعية ذات الجهد المضاعف».
الفنان هاشم تايه يرى أنه في معظم أعمال الفنان محمد مهر الدين نواجه فعل الرسم في توجّهين مزدوجين، أحدهما يكون فيه هذا الفعل مخلصاً لنفسه فلا يدخر أي طاقة من طاقاته من أجل أن يسوس مواده ويعالجها بحيوية وحميّة متقدتين مقلّباً إياها في احتمالات تشكيلية ثرّة يقترحها الخيال الحرّ ويشرف عليها العقل ذاهباً بها إلى أقصى إمكانات تشكّلها، والآخر يتخلّى فيه، أو هكذا يبدو، عن بعض إخلاصه لنفسه، فلا يغلق حدوده بوجه ما يقبل عليها من خارج انشغالات رؤيته، بل يسمح لها أن تعسكر على سطحه ناطقةً بما ترغب فيه إرادةٌ يهمها أن تتبنّى قضية أو تعلن عن موقف، فلا يسع فعل الرسم، وقد ألفاها في مجاله إلا أن يختار بين أمرين، أن يخضعها لمطالبه فتتكيّف على وفق ما تقتضيه بنيته، وهو ما اجتهد مهر الدين في القيام به في عدد من أعماله، أو أن يتغافل عنها في أعمال أُخر فتلتصق على السطح كتصريح أصمّ متعال بين خطوط وألوان انخرطت في نسيج مشتبك من العلاقات دون أن تعبأ به، أو يعنيها أمره.
ولهذا تظل عبارات من أمثال (الحرب القذرة) و(أبو غريب) وغيرها مجرّد عناوين تائهة لا خيط يصلها بما تورطت على القفز فيه ولا يسعفها إلاّ بالخذلان. فما الذي يجعل سطحاً تجريداً محضاً انشغل بعلاقات عناصره وحدها في حياد بارد، يتقبّل قسراً هذه المادة اللغوية التي تصرّح بموقف معين من قضية ما دون غيرها، مادام هو مقسوراً في كل الأحوال، وما دامت قواه الداخلية بالمظهر الذي اتخذته لا تستطيع، بسبب طبيعتها الخاصة وانشغالها بما هي معنية به، أن تقيم علاقة معه، وسيظل ملفوظاً خارجياً يمكن استبداله بأي ملفوظ آخر لا يجد السطح التجريدي غضاضة في استضافته. وعلى الرغم من انجذاب مهر الدين إلى مفردات أسلوبه الأثيرة ومواد عمله المختلفة وعكوفه عليها في أعماله الأخيرة، مستثمراً قواها استثماراً لا يقف عند حدود في تشكيلات تجريدية ثريّة، ما أن يفرغ من أحدها حتى ينبثق منه آخر هو محض تعديل أو اقتراح مفتوح لإمكان يتجدد بفعل ذخيرته الحيّة، فإن مهر الدين لم يتخلّ عن نزوعه القديم في أن تتبنّى أعماله قضايا معينة وتتخذ مواقف حيال ما يقع في محيطه.
ويشير الناقد الأردني غسان المفاضلة إلى أن لوحة مهر الدين ظلت لصيقة بمحيطها الحافل بالتوترات والتغيّرات. فيما ساهمت مرجعياته الثقافية والفكرية، وخلفيّته الماركسية، في تحقيق توازناته التعبيرية والجمالية على نحو قلّ نظيره في المشهد المعاصر للتشكيل العربي، بعيداً عن المساومة الاستهلاكية، وعن شرك الخطابة والشعار. من هنا، راحت لوحته في اشتباكها مع ظواهر الواقع المُعاش، معاينةً واستشرافاً، تؤكد انحيازها إلى خيار الشرط الإنساني، باعتباره خياراً أخلاقيّاً في الفن والحياة على السواء.
الناقد علي النجار يبين أنه في أعمال مهر الدين الأخيرة تم الفصل ما بين الوثيقة والحدث، لصالح الحدث الذي تجاوز ما قبله، ولا ندري ما بعده. الحدث صادم، رغم وهم مألوفية تكراره (المقصودة)، مجازر لا تنتهي. الحدث مواجهة مباشرة ما بين قطبي جغرافياه التي شطرت فضاءات المدينة عمودياً لنصفين- القتيل- ومتعهدي القتل. لا مبالاة معمدة بالدماء، ولا مبالاة سادرة في غيها، وليس سوى الأحمر القاني من يفصل بينهما. لقد أطلق مهر الدين مسوخه تعبث على صفحتها السوداء. ولتترك آثار ملوثات أشباحها على بياض الصفحة المقابلة لتفقدها طهرها، ولتدنسها بجرمها الذي كثرت شهوده لحد اللعنة.
ويضيف النجار أن مسوخ مهر الدين لم تنزل علينا من الفضاء، كما هي إعجازات الأفلام الهوليوودية. ولا هي من سلالة موروثنا الأثري. هي وكما تبدو بصورها هذه، عالمية المنشأ. لكن من أي منشأ استحضرها. هو لا يترك لنا مجالا للتخمين، وثائقه تؤكد أنها كائنات أرضية ذات كفاءة مبرمجة للافتراس العضوي، ولم نعد بحضرتها نأمن على أعضائنا الحيوية والضرورية. هي من سلالة بدأت تتشعب في دهاليز مدننا، بعد أن أطلقها المحتل وغير المحتل، ولحد الخوف من تناسلها قبل اجتثاثها وللأبد. هي أيضا بعض من تواريخ شخصية ليوميات شوارعنا الملغمة قذائف معدنية، هي بالأحرى الفعل وظله المعدني نفسه.