أما كان يمكن..‏!

يوسف الصائغ

إنها الساعة الثالثة..

بعد منتصف الليل.. 

بغداد واقفة، مثل مرضعة..

على كتفها، قمر ميت..

وفي الرحم منها جنين عجيب..

رأينا على الأفق المستريب..

قمرا من رماد . . وأنياب ذيبْ . .

والليلة . . سوف يسيل من القمر الميت . .

خيط دم ، يعلق بالروح وبالأغصان

والليلة . . تنبت في الملجأ أدغال العصر الملعون وتكتمل الأحزانْ

وستطفو قبل الفجر تماسيحٌ سود . .

ذات زعانف ، من لهب ودخان . .

وعما قليل . . ستبتديء المجزرة

**

مقدمة : 

أنا لا أنظر من ثقب الباب الى وطني . .

لكني أنظر ، من قلب مثقوب . .

وأميز بين الوطن الغالب . . والوطن المغلوب. .

. . .

اللهُ لمن يتنصتُ في الليل على قلب!

أو يسترق السمع الى رئتيه !

وطني لم يشهد زورا ، يوما..

لكن شهدوا بالزور عليه..

 

القصيدة  :

ها أنا و اقف ، فوق أنقاض عصري . .

أقيس المسافة مابين غرفة نومي . . وقبري !

وأهمس : واآسفاهُ . .

لقد وهن العظمُ ، واشتعل الرأسُ ، واسودّت الروح  .

من فرط مااتسخت بالنفاقْ . .

سلام على هضبات الهوى

( سلام على هضبات العراق )

انها الساعة الثانية ،

وثلاثون . . من بعد منتصف الليل . .

بغداد نائمة . . والهزيع ثقيل . .

وحده النهر مستيقظ . . والمنائر . .

والقلق المتربص ، خالف جذوع النخيلْ . .

فجأة . .

صرخت طفلةُ الخوف في نومها . .

وتخبط في العش فرخ يمام . .

وصاح المؤذن في غير موعده :

- استيقظوا ، ايها النائمون . .

وماد المدى . . وتجعد جلد الظلام

واقشعر السكون  :

ترى أما كان يمكن إلا الذي كان ؟

ماكان يمكن إلا الذي سيكون ؟

كان ، لامناص ، سوى ان تُخان ،

على صدق حبك ، ياصاحبي ، او تخون ؟

. . هو ذا قمر من دم ، قد التصقت كسر الخبز فيه . .

دم . . تراب . .

وهرّ على منكبيه . . غراب . .

ولقد نظرت بمقلتي ذئب الى وطني . .

وأحسستُ العواء ، يجيئني ، دبقا . . يبلله اللعابُ . .

ورأيتني ، اتشمم الجثث الحرام .

أفتش القتلى عن امرأتي . .

لكن . . صاح غراب البين . .

فانشقّ المشهد قسمين:

مشهد ، عن يسار ضريح الحسين . .

وآخر ، في ملجأ العامرية . .

ورويدا . . حتى يبتديء القصفُ ،

وتصعد ، من بين شقوق الاسمنت المحروق ،

تراتيل الخوف ، ترافقها أصوات مخاض . .

تسقط قنبلة . . تسقط أخرى . . أخرى

ينفجر الملجأ . . ينهدم السقف . . وتحترق الدنيا. .

فنموت . .

ونسمع بين الموت ، وبين اليقظة . .

صوت جنين . . يضحك في الأنقاضْ.

واقف فوق أنقاض عصري . .

كالصليب . . يمد يدين مضرجتين . .

فما بين يأس . . وصبر . .

ألا . . أيها الراهبُ الابديُّ الجريح . .

أما آن أن تستريح . .

وتدرك أنك لست المسيح . .

وان الطريق الى ( الجلجة )

لم يعد معظلة!

ولكنه ، في زمان . . كهذا الزمان . .

غدا مهزلة . .

ومحض جنون . .

ترى ، أما كان يمكن إلا الذي كان . . ؟

ماكان يمكن إلا الذي سيكون ؟ .

بلى . . كان يمكن . .

لكنّ خمسين عاما ، من الحب . . لابد تُتعبُ

والصبر . . يتعبُ . .

والحلم . . والوهم . . هذا العذاب البريء . .

في وداع حبيب مضى . .

وانتظار حبيب يجيء  !

وقد كنتُ في وحشة الروح . .

أرنو لبغداد . . أبحث عن منزل لي بها ،

وأعرف ، أنك أهلي . . وبيتي . .

وأن على بابنا ، جرسا للحنين . . أقرعه . . ثم أدخل  :

اللهُ . .

هذا إذن كل ماقد تبقّى ؟

سريرٌ كسيح . .

وغرفة نوم مهدمة . .

ماتزال معاطف من رحلوا

معلقة فوق جدرانها ومكتبةٌ . . سقطت كل أسنانها . .

وأهملها العاشقون . .

علام إذن يكتب الشعراء قصائدهم ؟

ومم تُرى يشتكون ؟

فما زلت أذكر ، أنا مشيينا وحيدين

نبحث عن فندق للعناق . .

وحين وجدنا الشوارع مهجورة . .

والفنادق ممنوعة على العاشقين ،

اخترعنا الفراق . .

سلام على هضبات زمان مضى . .

سلام على هضبات العراق . .

يومها . . كان للحب ، بيت صغير .

يعود له في المساء .

ولم يكن الحزن قد بلغ الرشد . .

والخوف ، ماكان قد أفسد الكبرياء ولم يكن الشهداء

يموتون ، من قرف أو رياء . .

. . .

أبدا . .

كان يمشي الى الموت

مكتفيا بمحض رجولته

وبزهو الدموع التي في عيون الحبيبة . .

وحين دنت ، ساعة المجد

غالبه حبه . . فانحنى خاشعا وقبل جلاده . . وصليبه . .

.. .. .. .. ..

واقف كالمرابي . .

في تخوم الضياع . . وعصر الخراب . .

على كتفي ، ببغاءٌ مدربةٌ

وفي الصدر قبرة . . بجناحي غراب . .

غير مستنكف من مشيبي . .

ولا نادم . . لأني لمحض سراب ، هدرت شبابي . .

ولم أنس هذا الذي كان . . او سيكون . .

فانظروا أيها الطيبون . .

إنها الساعة الثالثة . .

بعد منتصف الليل . .

بغداد واقفة ، مثل مرضعة . .

على كتفها ، قمر ميت . .

وفي الرحم منها جنين عجيب . .

رأينا على الأفق المستريب . .

قمرا من رماد . . وأنياب ذيبْ . .

والليلة . . سوف يسيل من القمر الميت . .

خيط دم ، يعلق بالروح وبالأغصان

والليلة . . تنبت في الملجأ أدغال العصر الملعون وتكتمل الأحزانْ

وستطفو قبل الفجر تماسيحٌ سود . .

ذات زعانف ، من لهب ودخان . .

وعما قليل . . ستبتديء المجزرة

فمن يشتري التذكرة

إني ابتعت بهذي الليلة تذكرتين

مكان اثنين . . أنا وحبيبة قلبي

في منتصف المشهد

لكأني أرى مثلما يحلم النائمون . .

عراقية تتفتح من فرح في الفراش الوثير

وأراني أمشط شعر محبتها

فترمقني بامتنان

وتمسح فوق يودي بالحرير

كأني أرى . . وأرى . . وأرى .

إنما ، فجأة . . يفتح الباب . .

يدخل مخدعنا ، قنفذٌ من دم

فتطفيء الرغباتُ

وتترك فوق السرير

جثة امرأة كنت احببتها

ستبقى بلا كفن في ضمير الحضارة. .

الى ان يدب الفساد بها . .

لتفضح سر العلاقة بين القداسة

فيما نحب . . وبين الدعارة!

. . . . .

واقف فوق انقاض بيتي . .

أفتش عن جثة امرأتي . . ودمية بنتي

ويسألني الناس للمرة الألف . .

- ماكان يمكن ؟

اصرخ : لا . . أيها الغفلون . .

فإن تك خمسون عاما من الحب تتعب . .

أو يكن الصدق يتعب . .

فالكذب . . آخ من الكذب . .

هذا العذاب البذيء

في اقتفاء النجوم التي لاتضيء . .

والتثبت من قمر في المحاق . .

سلام على هضبات المنى

سلام على هضبات العراق.

 

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :134,149,930

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"