في مرحلة غرفة الإنعاش

ضرغام الدباغ
متاعب الحياة كثيرة .. وهي التي قد تتعب شبان أو أفراداً قبل وقتهم، فيصابون بجلطات خطرة في القلب والدماغ، فيدخلون ما يسمى بغرف العناية المركزة، ويتساءل الناس .. عجباً ما به صديقنا ..هو شاب في مقتبل العمر ومثل الوردة ...!

ليس بالضرورة أن الأشخاص فقط يدخلون غرف العناية المركزة .. (intensivstation)، فأحياناً أوضاعاً اقتصادية المتراجعة لحد الانهيار تقريباً في بلد ما، أو فريق رياضي مشهور يواجه متاعب، أو بنك على وشك الإفلاس، أو مصنع كبير يقع في أزمة، فيتساءل الناس .. عجباً .. لماذا ننهار هذه الشركة ومعروف عنها أن أمورها جيدة وتحسن علاقاتها و..و.. و.. ويستغرب الناس ...معظم الناس .. إلا من يعرفون ظاهر الأمور وباطنها .. من الختايرة أو ممن يستهدون بفكر علمي مستنير حين يفكرون ويعملون .. هؤلاء يعلقون عادة: اللي ما يعرف تدابيره .. حنطته تآكل شعيره ..!
في غرفة أو قل مرحلة الإنعاش، الناس ليسوا سواسية، فمنهم من يمارس الاحتيال على نفسه وعلى المعالجين، ليغادر غرفة / مرحلة الإنعاش بأي ثمن، ولو بعلاجات مؤقتة، وهذا صنف لا أمل بشفائه، لأن من أوصله لهذه الحالة، هي هوسه بالتلفيق وبالحلول المؤقتة، أو بحل ظواهر الإشكالية دون عمقها. كالذي يريد علاج مرض خطير بالكمادات أو بالاسبرين ..! فإصلاح اقتصاد متهالك ليست أحجية (لغزاً)، لأن الاقتصاد علم يدرس في الجامعات، وهناك ملايين الكتب الاقتصادية لعلاج أعقد مشكلات الاقتصاد، ولكن لب القضية يكمن في سؤال : " هل أنت عازم أنت حقاً على الإصلاح ...؟ " ثم بسؤال آخر " هل أنت قادر على الإصلاح ..؟ ".
وإذا شاهدت العازم على عبور الشط يرتدي بدلة سهرة سموكنك، فأعلم أن لا علاقة له بالسباحة، أو رأيته مجهزاً بمشحوف أو شختورة، فأعلم أنه يريد أن يلهو بالماء الضحل، ولا قبل له بالأعماق ...!
وهناك من يستسلم لليأس، لأنه يعتقد أن لا قبل له بمصارعة هذا المرض. وكثيرا ما سمعت من الأطباء، أن علاج أخطر الأمراض يتعلق جزء منه بإرادة المريض نفسه وعزمه على قهر المرض .. الإرادة مسألة مهمة، وكذلك القدرة والشجاعة على مواجهة المواقف الصعبة .. وهذه صفة وقدرة تتواجد في الإنسان منذ ولادته، نعم، ولكن أيضاً بوسع الإنسان أن يربي نفسه بنفسه ..!
قرأت مرة وأنا صغير في العمر، ربما في العاشرة، أن بناء النفس ليس سهلاً، ولكنه ممكن... وإن سيطرة الإنسان على نفسه من أصعب الأمور، ولكنه ممكن أيضاً، وبتقديري أن التربية التي نما عليها الإنسان مهمة في تكوينه اللاحق .. ولكن مع ذلك يمكن للإنسان أن يبدأ مع كلمة " تطوير الذات " وذلك بالقراءة أولاً لأنها عبارة عن تراكم معلومات وتجارب وخبرات، وهذه ستعين له الوسط الذي يختلط به .. شخصيات جادة ومثقفة وسيكون لهذه العلاقات تأثيرات ونتائج ..أريد التأكيد أن الإنسان ليست كتلة صماء، وليس بعاجز عن التطوير الذاتي، وعن توسيع مداركه ومعارفه، وبالتالي وعيه.
حسناً، لنقل هكذا ... أن هناك شاشة تظهر الأفعال الصادرة عن الإنسان، ولكن هنا يوجد مجموعة ضخمة من المؤشرات والقياسات كل يشير إلى مستوى الحال في جزء من الإنسان، وتخيل إذا كانت طابعة الكومبيوتر (Key Board) تضم على الأقل 112 مفتاحاً، وهناك ما هو أعقد في المهام، تسهل العمل من جهة، ولكن الأمر يحتاج للتدريب حتماً ..! فتخيل كم من تضم لوحة المقاييس الإنسانية من مؤشرات ومفاتيح .. وأزرار وبراغي ....!
خلال تجاربي الحياتية، صادفت شباناً تافهين، لا يرتجى منهم عملاً ذا فائدة ونفع لهم أنفسهم ولغيرهم، ولكن هؤلاء الشبان استطاعوا أن يثوروا على أنفسهم ويصبحوا شيئاً آخر يختلف كلية عن الذي كانوا عليه. وأعرف رجالاً لم تسمح لهم ظروفهم بإكمال الدراسة، ولكنهم استطاعوا تحقيق ثقافة عريضة، وتعلم للغات أجنبية، فكانوا من البارزين في الحياة الاجتماعية والسياسية. وأعرف شباناً استسلموا لموجة الجهل، ولم يحاولوا تطوير أنفسهم، فيما أعرف شيوخاً تغلبوا على شيخوختهم وواكبوا العصر ومعطياته ومستلزماته وتعلموا استخدام الكومبيوتر، واكتشفوا عوالم الانترنيت فتمكنوا في عمرهم المتأخر، أن يحاكوا الشباب بقدراتهم ومعلوماتهم، وربما أن يتفوقا عليهم بحكم التجربة الثرية، والإرادة الصلبة.
شخصياً نجحت في إعادة تكوين أكثر من صديق، وحملتهم على الإقلاع من عادات سيئة، وأن يندغموا في حياة مفيدة ذات مغزى، وأن لا تمضي الأيام متشابهة بلا هدف ولا مسعى .. وصادفت شاباً عراقياً كان يائسا من يخلق شيئا من نفسه، يشعر بالحنين الجارف المرضي (Homesick) للوطن إلا أني استثرت الشجاعة والطموح لديه، فقابل ذلك الجهد مني بالاستقبال ... ولم تمضي سوى سنوات، وهذا الشاب اليوم على وشك أن يكون من أهم العلماء العراقيين في المهجر .. ونفسه تتوق لخدمة العراق.

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :133,413,042

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"