من المخابرات لرئاسة الوزراء فأي معجزة ستنقذ العراق؟

مثنى عبدالله

يقول العلم (من الصعب أن نحصل على نتيجة جديدة من تكرار الفعل نفسه). ينطبق هذا القول تماما على الحالة العراقية، فمنذ تشكل أول حكومة بعد العام 2003 وحتى اليوم تتكرر العناصرنفسها من اللون الطائفي نفسه، وتتقدم إلى قمة هرم السلطة السياسية بالوسائل والصفقات نفسها. قيل إن نوري المالكي هو سيف المرجعية الدينية وحامل رايتها، وإن اللاعبين الأمريكي والإيراني اتفقا عليه.

وعلى مدى ثماني سنوات 2006 ـ 2014 أوغل سيفه في البلاد والعباد، ثم خرج من السلطة، وثلث البلاد كانت خارج العراق، وملايين المشردين والمخطوفين والمقصيين، ومئات المليارات من الدولارات لا يعرف أحد أين ذهبت.
في عام 2014 بُشّر العراقيون بأن الأمريكيين والإيرانيين اتفقوا على البريطاني حيدر العبادي رئيس وزراء تكنوقراط، يتحدث الإنكليزية ويحمل شهادة الدكتوراه في الهندسة من بريطانيا. وأنه هو من سيمحو سلبيات سلفه، ويقفز بالعراق إلى مصاف الدول المتقدمة، وخلال سني ولايته لم نسمع منه وعنه سوى الشكوى في الإحاطة الإعلامية الاسبوعية، من أن البعض يسرق وأن البعض يقتل، وأن البعض يعرقل عمل الوزارات، بدون تسمية الجهات، وكأنه ليس في قمة هرم السلطة السياسية، ثم قيل إن عدم تجديد الولاية له كسلفه كان بسبب حق النقض الذي مارسته الميليشيات ضده.
وفي عام 2018 توافق الأمريكيون والإيرانيون على الفرنسي عادل عبدالمهدي رئيسا لمجلس الوزراء في العراق. قيل إن الرجل يحمل شهادات عليا في الاقتصاد وله علاقات دولية واسعة، وإن اختياره إنقاذ للعراق من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية. وعلى مدى السنتين اللتين قضاهما في قمة هرم السلطة، كانت إنجازاته هي التجوال سيرا على الأقدام في شارع الرشيد في بغداد، وإيعازه برفع الكتل الكونكريتية من بعض الشوارع فيها، والسماح للمواطنين باستخدام بعض الشوارع القريبة من المنطقة الخضراء المُحصّنة. في حين خرج منها مُتهما بالمسؤولية عن مقتل المئات من المتظاهرين السلميين، وجرح واعتقال واختطاف آلاف منهم.
اليوم يتكرر الفعل نفسه بالآليات والتوافقات والتحالفات نفسها، التي أتت بالحكومات الفاشلة السابقة، فبعد شهور ستة من الانسداد السياسي والتكليف وسقوط التكليف، نتيجة انعدام التوافقات الدولية والداخلية على مرشحين اثنين سابقين، أعلن في السادس من مايو الجاري عن تولي البريطاني رئيس المخابرات العراقية رئاسة مجلس الوزراء في العراق. قيل إن الفاعلين الرئيسيين في المشهد العراقي، الامريكي والإيراني، قد توافقا عليه، وأن كتلتي الفتح والبناء البرلمانيتين، وهما الذراعان المهمان لإيران في العراق قد باركتا هذا الاختيار. وكان الإعلان عن تولي المنصب في الساعات الأخيرة من المهلة الدستورية، وظهور التشكيلة الوزراية ناقصة، وامتناع هذا الطرف وذاك عن حضور التصويت، أدلة بارزة على أن العراق لن يغادر المشهد الذي هو فيه، وأن البُنى السياسية القائمة على كارثة الحصص الطائفية والإثنية لن تنتج سوى إدارات فاشلة، همها الوحيد هو إعلاء المصالح الطائفية على المصالح الوطنية، مع استمرار التشجيع على الفساد والمحسوبية السياسية والحزبية. وكما تعوّد العراقيون على برامج رؤساء الوزارات السابقين التي حفلت بالامنيات والتطلعات، حفل برنامج رئيس الوزراء الجديد بالعبارات نفسها، انتخابات مبكرة، وحكومة حل وليست حكومة أزمة، وإخراج البلاد من الانسدادات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والصحية وتحقق الاستقرار. كما أن الاولوية لسيادة البلاد والعدالة للعباد، وحصر السلاح بيد الدولة، وخضوع الميليشيات للقائد العام. وإبعاد الساحة العراقية عن صراعات الإرادات الدولية والإقليمية. وكذلك إنصاف المتظاهرين السلميين، الذين مازالوا إلى اليوم يُقتلون في الساحات ويُختطفون من الشوارع. كل فقرة من هذه الفقرات باتت أمنية كل عراقي، لكن العبرة ليست بتسطير البرامج السياسية بل بتنفيذها على أرض الواقع، فإذا كان البلد في ظل من سبقوه لديه وفرة مالية، ووضع صحي كان خاليا من فيروس كورونا، وكان الصراع الايراني الامريكي ليس بهذه الحدة التي نراها اليوم، ومع ذلك جلبوا الكوارث على العراق، وفشلوا فشلا ذريعا. فكيف يستطيع رئيس الوزراء الجديد أن يُنفّذ برنامجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والصحي اليوم؟ ففي المجال الاقتصادي، وفق توقعات البنك الدولي سينكمش الاقتصاد بنسبة 9.7% هذا العام، وأن معدلات الفقر حسب المصدر نفسه ستتضاعف، وأن عائدات النفط للشهر المنصرم بلغت 1.4 مليار دولار في حين فقط رواتب العاملين في الدولة تبلغ 4.5 مليار دولار. وهذا الركود سيكون العائق الأكبر في تنفيذ كل البرامج الأخرى في المجالات الصحية والاجتماعية وفي إعمار المدن المدمرة.

أما على الصعيد السياسي الخارجي، فإن إبعاد العراق عن أن يكون ساحة صراع للقوى الإقليمية والدولية، يتطلب أن يكون بناء الدولة قائما فعليا وليس شكليا. وأن تكون صناعة قراره السياسي في مؤسساته الفعلية المختصة، وليس اتخاذ القرارات يتم في مؤسسات مرجعيات دينية وسياسية خارج البلاد. فهنالك قوى سياسية لها القول الفصل في مصير البلد، تعلن صراحة أنها تتبع الفقيه الإيراني، وأخرى تتبع الفقيه الأمريكي والغربي، بل إن قرار وصول رئيس الوزراء الحالي نفسه إلى سدة الرئاسة، أتى بصفقة خارجية وليست داخلية. إذن كيف سيستطيع حصر السلاح بيد الدولة، وكيف يسُخضع الميليشيات إلى سلطته، وهي الاذرع الأهم لصُنّاع القرار، الذين أتوا به إلى قمة السلطة؟ دعك ممن يقولون بأن الرجل حصل على ترحيب دولي وإقليمي وعربي واسع، فعورة السياسة الداخلية لا تغطيها العلاقات الخارجية، وهذا الترحيب والإشادة مرّت على أسلافه أيضا، وهي نوع من العلاقات الدولية لا أكثر. الشرعية الحقة هي التي يمنحها الشعب للحاكم، وإذا كان الشارع العراقي قد خرج مباشرة بعد تنصيب الرجل في تظاهرات مليونية ترفض التنصيب، وترفض النظام السياسي الذي أتى به، فما قيمة الترحيب الخارجي؟ ببساطة تامة ذلك يعني أننا أمام فشل للدولة في إقناع مواطنيها بما تقوم به. وعندما يحصل ذلك تصبح مجردة من الشرعية فيتحداها الشعب. وهذا هو الحاصل اليوم في ساحات التظاهرات العراقية.
المشكلة الرئيسية في العراق لا تكمن فيمن يتبوأ مناصب الرئاسات الثلاث، كذلك هي ليست في السلطتين التشريعية والتنفيذية. المعضلة الكبرى هي في النظام السياسي القائم، الذي ليس بإمكانه تقديم أدلة كافية على أدراكه خصائص الوطن، وعجزه التام حد الشلل عن تطوير رؤية سياسية وطنية جامعه. كما أن فساده شكل عبئا مستديما على الدولة والمواطن. كل هذه المواصفات خلقت خللا بنيويا في علاقة المجتمع بالدولة وحوّلت الدولة إلى سلطة. لقد توفرت في رئيس الوزراء الجديد كل الشروط الممنوعة التي رفعها الشباب في ساحات التظاهر، فالرجل مزدوج الجنسية، ومن رحم النظام السياسي القائم، وأتى بتوافق خارجي صريح ومعلوم. في حين أن العراق بحاجة إلى سلطة الهيبة، وسلطة المعنى، وسلطة الفكرة الوطنية الخالصة. وهذه كلها غير متوفرة في المسؤولين الذين ينجبهم النظام السياسي القائم.

نشر المقال هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :133,412,842

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"