الاستثمار الاستخباراتي في الأوبئة العالمية

مثنى عبد الله

فجأة اختفت الأحداث السياسية من العناوين الرئيسية للصحف ونشرات الأخبار، وتراجع التحليل السياسي متقهقرا أمام احتكار الظهور المكثف للأطباء والاختصاصيين على شاشات التلفزيون للحديث عن الوباء الجديد. ولم يعد هنالك حديث بين اثنين إلا وكان كروونا ثالثهما.

لكن ما بدا غريبا للبعض هو بروز بعض المعلومات الصحافية، التي أشارت إلى دخول أجهزة المخابرات على خط أزمة الوباء العالمي، في حين هنالك تصور بوجود بون شاسع بين عمل المخابرات وعلوم الطب والأوبئة، وخلاصة الخبر كانت تكليف جهاز الاستخبارات (الإسرائيلي) "الموساد" بالمساعدة في مكافحة فيروس كورونا. ويقال إنه نجح في جلب أجهزة طبية، مهمة تساعد في إجراء الاختبارات من دول ليس لدى (إسرائيل) علاقات سياسية معها، وبذلك بات الحديث مفتوحا عن ماهية الاستثمار الاستخباراتي في الأوبئة العالمية؟ وكيفية توظيف المعلومات، التي يتم الحصول عليها عن الأوبئة في الجانب السياسي والعلاقات الدولية؟
إن استبعاد احتمالية الاستثمار الاستخباراتي في الأوبئة التي تجتاح العالم، يردّه البعض إلى أن المساحة التي تتحرك فيها أجهزة الاستخبارات، هي كل ما يختص بالآخرين في المجالات الأمنية والعسكرية والسياسية. وبالتالي فإن المعلومات التي يتم الحصول عليها في هذه الجوانب، يمكن البناء عليها لصنع سياسة خارجية، تحقق نظرية الأمن القومي لبلد ما. لكن هذه النظرة تبدو قاصرة بعض الشيء. فقد تتحرك الاستخبارات لمتابعة الأوبئة والأمراض السارية في الساحات الإقليمية والدولية، بهدف توفير الحماية اللازمة لدولها، ثم لرصد إجراءات وأساليب الدولة التي تعاني من الوباء على الصعيد السياسي والاقتصادي والأمني، وعلى صعيد مقدار الموارد المتاحة لديها، في إيقاف التهديد الصحي.
وأن صانع القرار السياسي، الذي يدفع بأجهزته الاستخباراتية لممارسة هذا النشاط باتجاه الاخرين، إنما يهدف منه معرفة مدى الضرر الاقتصادي الذي أصاب تلك الدولة، من جراء الوباء وانعكاساته على الموازنات العسكرية، وقياس مستويات النجاح أو الفشل في احتوائه، بما ينعكس سلبا أو إيجابا على الشرعية السياسية للسلطات الحاكمة، وكذلك أعداد الناس التي قضوا بسبب الوباء، لمعرفة طبيعة التطورات الديموغرافية في ذلك البلد. كل هذه المعلومات التي يتحصل عليها جهاز المخابرات، تتشكل منها قاعدة واسعة من الحقائق، التي يصيغ على ضوئها صانع القرار السياسي استراتيجية تعامل دولته مع البلدان الأخرى، التي ضربها الوباء، ويصنع منها أوراق ضغط سياسية واقتصادية على الطرف الآخر.

وأمام هذا التحرك ولأهميته ولخطورته على الأمن القومي للدول، نجد أن بعضها تعي هذا النشاط جيدا، فتجتهد في وضع مصدات تجاهه، أولها محاولة التستر على الوباء، وعدم الإعلان عنه، أملا في القضاء عليه أو الحد من انتشاره. أما في حالة خروجه عن السيطرة، فيصبح أسلوب التقليل من عدد المصابين والمتوفين في بيانات وتصريحات المسؤولين هو السياق المعتمد. ولعل من الأمثلة البارزة على هذا السلوك هو ما عمدت إليه السلطات الإيرانية في بداية أزمة الوباء الحالي. فقد حاولت إعطاء إحصائيات إلى منظمة الصحة العالمية، لا تشكل سوى نسبة عشرة في المئة من الأعداد الحقيقية للإصابات التي حصلت في البلاد. ويعود السبب في ذلك إلى أن صانع القرار الإيراني، كان تحت ضغط شديد ناتج عن الصراع بين طهران وواشنطن، فجنح إلى التستر على الأرقام الحقيقية، كي لا يعطي فرصة لعدوه، لاستغلال الخلل الناتج عن الوباء، واستثماره بالضد منه، سواء في تأليب الداخل الإيراني على السلطات بسبب عجزها عن مواجهة الوباء، وإنقاذ الإيرانيين، أو في اضطرار السلطات الإيرانية، طلب المساعدة من المجتمع الدولي، وبالتالي تتوفر فرصة دخول المخابرات الأمريكية أو الغربية بغطاء منظمات صحية وإنسانية، ما يعرض أمنه القومي إلى التهديد.
وقد حصل السيناريو نفسه في الصين عام 2002 حين عمّ وباء (متلازمة سارس)، الذي كان أول وباء عالمي في الألفية الثالثة يخرج من هذا البلد أيضا. فتكتمت السلطات في بكين، ولم تعلن عن انتشاره، لكن يبدو أن المخابرات الألمانية كانت لديها مصادر معلومات سرية داخل الصين، فوضعت خطة لرصد الوباء من خلال التجسس على الاتصالات الهاتفية المهمة، ومقاطعتها مع المعلومات الواردة إليها من مصادر متعددة من أرض الواقع. فكان نصرا لجهاز الاستخبارات الألماني، الذي وضع قاعدة معلومات مهمة لصانع القرار السياسي الألماني حول الوباء وطبيعته، وكذلك مقدار الخسائر البشرية والاقتصادية التي تكبدتها الصين، وسلط الضوء على استراتيجية الصين للتستر على الوباء. وفي الوقت نفسه كانت المعلومات مهمة في وضع إجراءات تحصين فاعلة ضد المرض كي لا ينتشر ويصل إلى المانيا.
واليوم يهرع الكثير من أجهزة الاستخبارات العالمية، لتوجيه كافة مواردها البشرية والتكنولوجية، لكشف ما يحدث في الصين في ظل الوباء الحالي. فقد شرعت المخابرات المركزية الأمريكية بالبحث عن بيانات فعلية عنه في هذا البلد، وعن الطرق التي اتخذتها الدولة في مواجهته وحصر انتشاره، إلى الحد الذي تم توجيه الأقمار الصناعية لرصد حقيقة ما يجري على الأرض. والغاية الرئيسية من وراء ذلك ليس الحفاظ على حياة الإنسان، بل مقدار الضرر الذي أصاب الاقتصاد الصيني، الذي بات يهدد اقتصاديات الدول الكبرى. كما أن الإحاطة بطرق العلاج التي استخدمتها الصين، توفر قاعدة معلومات مهمة عن المستوى العلمي في المجالات الطبية والصناعات الدوائية، التي وصل إليها هذا البلد. كما لن تتورع الدول لتوجيه أجهزة استخباراتها لسرقة التركيبات الكيميائية للقاحات والعلاجات قبل إعلانها، أو إغراء الشركات الصيدلانية العاملة في إنتاج هذه العلاجات، لمغادرة البلد الأم الى بلد آخر، مقابل مبالغ مالية ضخمة، بغية احتكار الدواء والمتاجرة فيه اقتصاديا وسياسيا. لذلك سمعنا الجدل الذي حصل بين الولايات المتحدة وألمانيا، حينما حاولت الأولى إغراء شركة ألمانية لديها أبحاث متقدمة في مجال صنع لقاح ضد فيروس كورونا، بالانتقال إلى الولايات المتحدة وإنتاج اللقاح بشكل حصري لها. وكانت الوسيلة في ذلك هي استدراج مدير الشركة بدعوة زيارة إلى الولايات المتحدة، ثم الضغط عليه، ما اضطر مجلس إدارة الشركة لإعفائه من منصبه.
أما في (إسرائيل)، فعلى الرغم من أن تكليف جهاز الموساد بالمساعدة في التصدي للوباء، يهدف الى رفع أسهم رئيس الوزراء، الذي فشل في تشكيل حكومة جديدة، فإنه أيضا يعطي صورة واضحة عن إمكانية تحرك الموساد للتصدي للوباء، من خلال استثمار علاقاته الأمنية مع أجهزة شبيهة في دول أخرى، لا ترتبط معها إسرائيل بعلاقات دبلوماسية. في حين يتولى جهاز الشاباك تأمين الوقاية ورصد ومتابعة المصاب، ومن خالطهم من خلال مراقبة تحركاته في المنزل وخارجه. وكل هذا التدخل الأمني في موضوع الوباء ناتج عن خوف (إسرائيل) من الوصول الى ما وصلت إليه الحال في الصين وإيطاليا، من حيث عدد المتوفين بالفيروس. ما يؤثر على عدد السكان فيها، خاصة أنها مجتمع صغير وسط مجتمعات ذات كثافة بشرية عالية. إن ما شهدناه خلال الأيام القليلة الماضية، من انهيار البورصات المالية العالمية، وتدحرج أسعار النفط نتيجة الحرب النفطية بين السعودية وروسيا، وتصدع البنى الأساسية للاتحاد الأوروبي، إلى الحد الذي ذهبت فيه كل دولة تلعق جراحها وحدها، من دون الشركاء في الاتحاد. كلها مهددات خطيرة برزت على أرض الواقع بسبب الفيروس، ما يجعل من تدخل أجهزة المخابرات في موضوع الوباء ضرورة حتمية، لأنه بات مهددا كبيرا للامن القومي للكثير من دول العالم إن لم يكن للعالم كله.

نشر المقال هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :133,413,018

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"