غاطس العلاقات الأميركية الإيرانية/ 2

نزار السامرائي
الجزء الثاني
ما هي أسباب التردد الأميركي في تعاملها مع إيران؟
هل هو ناجم عن ضعف أميركي عسكري؟ بالطبع هذه خرافة لا يصدقها حتى الإيرانيون أنفسهم.

هل هي خشية من نتائج المواجهة سواء من قوة إيران الذاتية أو من أدواتها الإقليمية أو المنتشرة في مناطق واسعة من العالم؟ ولماذا وقفت الولايات المتحدة وإسرائيل عاجزتين عن ردع نوايا إيران النووية؟ ولماذا تخاذل الاتحاد الأوربي عن اتخاذ خطوة واحدة تجاه هذا البرنامج الذي يشكل خطرا داهما على العالم وعلى المنطقة برمتها؟ وهل يرتبط الأمر بقوة غامضة تمتلكها إيران تستطيع بها إخافة العالم؟ أم أن الأمر يرتبط بحلف روسي صيني داعم بلا حدود لإيران ترافق مع مصالح فرنسية وألمانية اقتصادية في إيران تسعى لعدم إضاعتها؟ بحيث باتت الزعامة الإيرانية على قناعة من أن المصدات التي أُقيمت حول جدرانها الخارجية حتى من دون طلب منها باتت أقوى سياج يوفر لها الحماية اللازمة من أي تهديد خارجي خاصة مع رئيس أميركي يقول ما لا يفعل ومهووس بتبديل مستشاريه ومساعديه ويمارس دبلوماسية التويتر بنجاح لم يحقق مثله أي رئيس آخر، حتى أن وزير خارجيته مايك بومبيو أجاب عن سؤال صحفي عن موعد مغادرته لموقعه كوزير للخارجية، قال إنه ينتظر تغريدة للرئيس تحسم هذا الأمر، وهذه السخرية اللاذعة تعكس مدى التدهور الذي وصلته مؤسسات الدولة الأميركية العميقة التي تميزت في حقب الرؤساء الكبار باستقرار في المناصب العليا في البلاد.
يرى باحثون يعرفون أكثر مما تسمح الولايات المتحدة بتسربه، أن استراتيجية القوى الدولية رسمت لمنطقة الشرق الأوسط معادلة سياسية لا تريد أن تفلت خيوطها من بين يدها، تتلخص ببروز ثلاث قوى فاعلة فيها هي على التوالي في قدراتها العسكرية:-
1 – إسرائيل
2 – تركيا
3 – إيران
وإبقاء الوطن العربي مقّسمّا مهّمشا يعيش صراعات بينيّة على الحدود والثروات بين دوله، أو أزمات داخلية كقضايا الحريات العامة وحقوق الأقليات والتوزيع العادل للثروات، بحيث تجد دولُه نفسَها مضطرةً للإنفاق العسكري دفاعا عن نفسها وعادة لا تستطيع أن تفعل ذلك، مما يضطرها لطلب الحماية الدولية، التي تستطيع من خلال ذلك الحفاظ على تواجدها العسكري ونفوذه السياسي وحماية مصالحها الاقتصادية، ويمكن استنتاج ذلك من أن سياسة إيران بعد إسقاط الشاه بسبب ارتباطاته مع الغرب وعلاقاته مع إسرائيل، لم تتغير نحو الأحسن، بل على العكس من ذلك باشر النظام الذي أقامه خميني تحركاته الخارجية بشطر العالم الإسلامي عموديا على أسس طائفية وزرع الخلايا والتنظيمات الولائية في الوطن العربي، وبفرض العدوان على العراق الذي لم يكن له خيار إلا الدفاع عن نفسه في مواجهة التهديد الخارجي.
حسنا تلك إذن حزمة عريضة من أسئلة حائرة قد لا تجد لها إجابات شافية في عوالم التوقع أو التحليل والاستنتاج، ما لم يتم كشف ملفاتها السرية في أدراج أجهزة المخابرات ووزارات الخارجية، ولكن ذلك لا يحول دون إعطاء وجهات نظر تحليلية لما يجري وما يترتب عليها من نتائج.
من المعروف أن دونالد ترمب هو سادس رئيس أميركي يصل إلى البيت الأبيض منذ وصول خميني إلى السلطة في إيران، بدأها جيمي كارتر الديمقراطي واعقبه دونالد ريغان الجمهوري، وخلال رئاستهما كانت أزمة احتلال السفارة الأميركية في طهران في ذروة التأزم، وعجز جيمي كارتر الذي وُصف في حينه بأنه أضعف رئيس أميركي حتى ذلك الوقت عن حل أزمة الرهائن وإن كان قد قدم تنازلات سياسية لافتة، منها عدم استضافة الشاه المعزول فوق الأراضي الأميركية على الرغم من أصابته بمرض السرطان، ومنها مالية إذ تعهدّ بإطلاق مليارات الدولارات العائدة للحكومة الإيرانية التي كانت الإدارة الأميركية قد وضعتها تحت الحجز بعد سقوط نظام الشاه، وقامت الحكومة الجزائرية بدور الوسيط المكوكي بين الطرفين ثم استضافت عاصمتُها التوقيعَ على محاضر الاتفاق بين البلدين وبضمانتها، لتحويل الأموال المحجوزة ثم نقلها إلى إيران، ومع أن المفاوضات قد أُنجزت خلال إدارة كارتر، إلا أن التمّنع الإيراني لم يشأ منح كارتر شرف النهاية السعيدة لمحنة 52 من الدبلوماسيين العاملين في سفارة بلدهم في طهران والذين تم احتجازهم لمدة 444 يوما.
وبعد كارتر وصل الرئيس ريغان إلى البيت الأبيض والذي هدد بأن على إيران أن تطلق سراح الرهائن قبل تسلمه السلطة وإلا فإنها سترى موقفا لم تعهده قبلاً، وهذا ما حصل، ولكن ريغان الذي حمل إلى السياسة الأميركية كل ما حفلت به أفلام هوليود ركز كل اهتمامه للدخول في سباق تسلح مع الاتحاد السوفيتي السابق وهو ما أدى إلى ارهاق الاتحاد السوفيتي وتحميله فوق طاقته، مما أدى إلى خروج الأخير من الساحة الدولية منكسرا بُعيد انتهاء رئاسة ريغان في ولاية جورج بوش الأب، والذي استثمر خلو الساحة الدولية من المكافئ القوي فعرّج على منطقة الشرق الأوسط لإخراج أقوى أعداء أميركا في المنطقة أي العراق من المعادلة الإقليمية، فخاض بوش حربه الخاصة ضد العراق لتحقيق الهدف الذي أعلنه جيمس بيكر وزير خارجية بوش بإعادة العراق إلى عصر ما قبل الصناعة، وهكذا مرت إيران بحالة استرخاء في عهد ديمقراطي واحد وعهدين جمهوريين، بل أن دونالد ريغان الذي كان يُنظر إليه كواحد من الرؤساء الصقور في تاريخ الولايات المتحدة، أرسل مستشاره لشؤون الأمن القومي روبرت ماكفرلين إلى طهران أثناء الحرب مع العراق حاملا هديتين ثمينتين، الأولى كعكة كبيرة على هيئة خريطة العراق مع سكين، كناية عن تعهّد أميركي بتسليم العراق كاملا لإيران لتفعل به ما تشاء، والثانية صفقة سلاح أُطلق عليها اسم كونترا، تضمنت صواريخ تاو وقطع غيار لطائرات الفانتوم وF 5، في محاولة لترجيح كفة إيران في عدوانها على العراق، أما نائبه السابق جورج بوش الأب فقد حقق أحلاما تلمودية في تدمير بابل لما تمثله من خطر على دولة إسرائيل، وتولّدت قناعة أن خروج الاتحاد السوفيتي من معادلة الصراع الدولي لا بد أن يقود إلى أن تخترع عدوا بديلا، فوجدت الولايات المتحدة في العراق عدوا يهدد مصالحها الإقليمية، تعاملت معه على هذا الأساس مع أنها تعرف جيدا عدم وجود تناسب في حجم القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية لكل منهما.
بعد رحيل بوش الأب من البيت الأبيض جاء رئيس ديمقراطي هو بيل كلينتون محملا بوعود كثيرة، لكنه سقط من حصانه في أول غزواته، عندما تسافل وسقط تحت إغراء شابة يهودية حسناء حديثة الوظيفة في البيت الأبيض، فغادر كل ما يفرضه عليه منصبه من وقار تفرضه مستلزمات وظيفته حتى بفرض أن مثل هذه المغامرات الرخيصة هي ديدنه، فواقعها في إحدى غرف البيت الأبيض، ولما كانت الفتاةُ المذكورة مكلفةً بهذه المهمة فقد كشفت تفاصيلها لممارسة المزيد من الضغط الصهيوني على كلينتون من قبل اللوبي اليهودي في أمريكا لتحقيق مكاسب أكبر لإسرائيل، وأحيل كلينتون إلى لجنة تحقيق، ومن أجل الإفلات منها، لم يجد إلا في العراق خلاصا لكرسيه من السقوط، فأمر بتنفيذ ضربة صاروخية أتت على ما قام العراق بتصليحه وصيانته مما دمره سلفه بوش الأب.
لكن اللعبة التوراتية الإنجيلية التي اعتمدها أكثر من رئيس أميركي في تعاطيه مع السياسة الدولية لم تنته عند هذا الحد، فقد وصل إلى البيت الأبيض أكثر الرؤساء الأميركان سفاهة وحمقاً، وهو جورج بوش الابن الذي استغل وقوع تفجير برجي التجارة الدولية في نيويورك في 11 سبتمبر/أيلول 2001، فنفذ حربه الخاصة بغزو أفغانستان بحجة القضاء على القاعدة، ثم واستنادا إلى أمر رباني فقد قرر غزو العراق عام 2003، بدعوى امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل ودعمه للإرهاب الدولي، تلك الاتهامات التي تأكد زيفها على الرغم من كل الجهود التي بذلتها أجهزة المخابرات الأميركية والبريطانية للإمساك بأي خيط يدعم تلك الاتهامات، ثم تم تدمير منظومة الدولة العراقية وعقد المحتلون اتفاقيات سرية مع إيران تسلمت بموجبه دولة الفقيه العراق كاملا واستكملت ما لم تنفذه أميركا من دمار.
وهكذا نلاحظ أن في كل مرحلة من مراحل المواجهة ترفع الولايات المتحدة شعارات عالية النبرة ضد إيران ولكنها في التنفيذ توجه طائراتها وبوارجها وصواريخها وفرقها العسكرية نحو العراق والعراق فقط.

يتبع الجزء الثالث

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :133,486,907

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"