عناصر التغيير في المعادلة الداخلية العراقية

مثنى عبدالله

لقد كان اندلاع الاحتجاجات الشعبية في العراق بداية الشهر الجاري بصورة عفوية وبدون قيادة وتوجيه، مؤشرا صحيا على عودة الوعي، بعد أن حاولت الطغمة الحاكمة وأحزابها وميليشياتها، احتكار الوعي العراقي، وربطه بتفكيرها المعطوب وسياساتها الرثة وتقاليدها البالية.

لقد صوّروا أنفسهم على أنهم المنقذ من الظلال والاستبداد، والمُبشّر الحصري والوحيد بالديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة والمساواة، حتى خوّنوا كل صوت وطني حريص على العراق، ونعتوه بشتى النعوت والأوصاف، لكن تباشير الوعي الذي لا يمكن لأي سلطة أن تحتويه وتختزله، جعل الجميع يوقن بأن بروز حكم رشيد من هذه الطبقة السياسية قد بات مستحيلا، حتى الذين نادوا بالتروي والانتظار لعل العملية السياسية تفرز من بين القائمين عليها وفيها من يتلمس طريقا آخر ويصحح ويصوب المسار، قد فشلوا فشلا ذريعا وتواروا عن الأنظار خجلا من محاولاتهم السقيمة. فالتراكم السلبي الذي أحدثته هذه المنظومة السياسية التي اتى بها المحتل، على مدى عقد ونصف العقد من الزمن، أفشل كل المراهنات عليها، وألقى بالمصداقية التي حاولت قوى عربية وإقليمية ودولية إضفاءها عليها، ألقى بها في سلة النفايات، وتركها عارية تماما أمام الشعب العراقي.
وقد أفرج هذا العُري عن صور صادمة تُبيّن تقاسم الوظائف العامة بين الاحزاب الحاكمة، وإحالة عقود المشاريع الاقتصادية والإنشائية والنفطية، إلى كارتلات الفساد المحلي والإقليمي والدولي، ما خلق قطاعا طفيليا جديدا، يمكن أن نطلق عليه (قطاع الأحزاب)، الذي ازدهر وبات كل من هبّ ودبّ يعلن عن تشكيل حزب وحركة سياسية، لأنها أصبحت وسيلة من وسائل النفوذ، ومصدرا من مصادر الثراء في البلاد. رافق هذا الاتجاه بروز وسائل إعلام خاصة بالاحزاب، ومصالح اقتصادية وشركات، وعلاقات خارجية، بهدف كسب وتأمين الحاضنين الدوليين والإقليميين لهذه الاحزاب.
يقابل هذا النمو الحزبي والإعلامي والتجاري المُحتكر من قبل فئة قليلة، زيادة مطرده في عدد الفقراء والمحرومين والعاطلين عن العمل، ونقص شديد في الخدمات الأساسية من مدارس ومستشفيات ومحطات المياه والكهرباء. هنا بات التغيير ضرورة استراتيجية، وأصبح من يقف في وجه هذا التحوّل إنما يحاول جاهدا الوقوف أمام الحتمية التاريخية في هذا البلد، فلم يعد هنالك إنسان في هذا المجتمع لا ينشد التغيير، كما لم يعد التغيير على الطريقة التي عرفناها خلال الأعوام الماضية، طريقة التغيير في القمة وبوسائل القمة وألاعيبها، بما تحويه من تغيير الوجوه وإعادة تدويرها، هي الحل. التغيير المطلوب اليوم يجب أن ياتي من القاعدة، التي عرفت الظلم والاضطهاد، وقمع الحريات، والفقر والعوز.. لأنها الوحيدة القادرة على تحديد أطر التغيير وجوهره وفق مصالحها، التي هي مصالح عامة المجتمع، فالنظام السياسي الحاكم قاده قصوره في الأداء إلى فشل في التنفيذ على جميع الاصعدة. هذا القصور والفشل لابد أن يدفع طلائع المجتمع وقواه الحية وهم فئة الشباب، إلى تنظيم أنفسهم بصورة عفوية، ومن دون قيادة لإيجاد الحلول والنهوض بالمجتمع من جديد. فلم تعد الهياكل السياسية القائمة الآن قادرة على تلبية تطلعات واحتياجات هذا القطاع الواسع من الشعب العراقي. كما لم تعد الوعود المتكررة بإحلال التكنوقراط محل الجهلة والأميين في المناصب الحكومية، عملية مجدية أيضا، حيث فشلت محاولة الحكومة الحالية في هذا الاتجاه، بعد أن تبين أن خلف هؤلاء التكنوقراط احزاب وقوى متنفذة، تملي عليهم ما هو مطلوب تنفيذه، وما هي حدود الحركة إلى أمام المسموح بها.

هذا الوضع المعقد والمتشابك، والمصالح المختلفة والمتناقضة والمنسجمة معا، يرفع من مقدار الحاجة الماسة إلى قوى جديدة لإحداث التغيير المنشود، وبوسائل جديدة وبرؤى يجب أن تكون من خارج العملية السياسية، وبأفكار تؤمن بالتغيير الجذري المبني على أسس راسخة، وليس الإصلاح والترقيع والتستر على من يقف خلف الستار، للتوجيه وصنع القرار. حتى الترقب والأمل بوصول منقذ كفوء عسكري أو مدني، بات غير مجد بالنسبة للعراق، لأن المسار الذي دخل به بات نفقا مظلما لا يسمح بمنح المزيد من الوقت بانتظار النتائج. وبذلك يصبح العمل المنظم والدؤوب، مع القدرة الإيمانية العالية بقبول التضحية، هما الحل الوحيد للوصول إلى شاطئ الأمان. وهذه كلها صفات موجودة لدى قاعدة عريضة من الشباب، الذين رفضوا الانخراط في صفوف الأحزاب البالية، والتنظيمات المسلحة والميليشيات التي تبتز الناس، وآثروا على أنفسهم القيام بعمل بطولي، يؤسس لعقد اجتماعي جديد في البلاد. أسسه الراسخة هي المواطنة وتكافؤ الفرص، والمساواة وسيادة القانون، وإشاعة الحقوق المدنية والاجتماعية، وإعادة الحياة إلى الخدمات الأساسية.
والأهم من كل ذلك عودة السيادة واستقلالية القرار العراقي، والتخلص من التبعية الاقليمية والدولية، أيا كان شكلها ومصدرها، لذلك بات أمل الشعب العراقي معقود على انطلاقة هذه الجموع الشبابية بهذا الفهم الجديد، والتي هي وحدها القادرة على تمزيق هذا النظام البائس. وهي وحدها من يعيد عجلة العراق للسير على الطريق الصحيح. لقد عاش هذا الجيل في كنف نظام سياسي طائفي دموي متهرئ، لم يقدم لهم أي فرصة لتحقيق الذات وصهرها في الذات الجمعية للمجتمع، كما لم يسمح لهم بوضع أقدامهم على الطريق الصحيح لتحقيق أحلامهم وطموحاتهم، بدل ذلك حاول جاهدا خلال ست عشرة سنة أن يُحنّط عقولهم، وأن يدغدغ غرائزهم القومية والدينية والطائفية، في سبيل أن يحظى بالقبول والرضا، كي يستمر مسلسل السرقات والفساد والإثراء على حساب مستقبلهم. وكان في كل فرصة احتجاج واعتراض شعبي يلوك حديثا بائسا عن الإصلاح السياسي، الذي في حقيقته لا يخدم إلا مصالح الطبقة السياسية، ولا يتعامل مع التحديات الحقيقية التي تواجه البلد. وإذا كانت السلطات قد سارعت لإعلان نتائج التحقيق في حوادث القتل التي تعرض لها الشباب المنتفضون السلميون، وبررت ذلك بفقدان السيطرة من قبل القادة على قواتهم. كما قال البيان الصادر يوم الثلاثاء الماضي. وأنها أوصت بإحالة ملف التحقيق إلى القضاء، فإن كل ذلك يجب أن لا يثني أحدا على السير إلى امام في الطريق الجديد، فالحذر واجب من تنازلات وليونة سلطوية لشراء المزيد من الوقت، بغية إبقاء العملية السياسية على قيد الحياة، ونزع فتيل الانتفاضة الجماهيرية العفوية .
العراق بحاجة إلى اصلاحات بنيوية عميقة، وثورة اقتصادية واجتماعية وثقافية وفكرية، وهذه لن تتحقق في ظل حكم دُمى سياسة وزعامات ميليشياوية مسلحة. فالانتقال به من دولة فاشلة إلى دولة تقف على خط الشروع لتحقيق التنمية المستدامة والديمقراطية الحقيقية، وتوفير الحياة الحرة الكريمة، في ظل نظام وطني كامل الاستقلالية والسيادة، يحققها رجال دولة من طراز آخر.

نشر المقال هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :133,410,342

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"