إدامة زخم الانتفاضة العراقية حاجة ملحة

مثنى عبدالله

كانت الانتفاضة العراقية الأخيرة في بداية الشهر الجاري، أبرز مؤشر على استفحال سلسلة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية والثقافية في البلاد. كانت الاحتجاجات بارومترا حقيقيا لعدم الرضا والوصول إلى حالة فائض الغضب، والاستعداد للتضحية بالنفس، في سبيل تغيير الوضع القائم. وهو ما أعلن عنه العدد الكبير من الضحايا والجرحى، الذين سقطوا بنيران القوات الحكومية والميليشيات التابعة لها.

وإذا كان البون بين السلطات والشعب قد أخذ في الاتساع والتزايد، منذ عام 2005، فإنه في السنوات الأخيرة بات شاسعا، وأصبح من المستحيل ردم الفجوة القائمة بوعود معسولة، وقرارات تفتقر إلى المصداقية، وإمكانية التطبيق العملي على أرض الواقع. ما جعل الإحباط عاما وشاملا في الحياة العراقية، ولم يعد أحادي الجانب في مجال الفساد المالي مثلا، أو سوء الإدارة ونقص الخدمات، أو الظروف المعيشية البالغة السوء.

حتى (المظلومية) الطائفية التي تعلّق بها الساسة من أحزاب الإسلام السياسي الشيعي، منذ بداية الغزو وحتى اليوم، الذين ادعوا أنهم جاءوا من أجل رفعها عن الطائفة، لم تعد حبل نجاة لهم. فقد اجتاح الغضب محافظات الجنوب والفرات الأوسط، وكان شباب هذه المدن هم حملة راية الاحتجاجات قبل غيرهم، ما وضع جميع السلطات في موقف مزر وبائس، وما تسبب في اهتزاز أسس العملية السياسية بصورة لم يسبق لها مثيل من قبل.
وإذا كان الانفتاح على الأزمات والتفاوض بين الطرفين، لنزع فتيل الديناميكيات الخطرة، هو أساس أي عملية سياسية في بلد مأزوم من بلدان العالم، فإن هذا الباب مازال مواربا بين الشعب والحكومة حتى اليوم. والسبب في ذلك ليس الطرف الأول، بل السلطات التي أهدرت أكثر من عقد ونصف العقد من الزمن في بناء جدران العزل عن شعبها، واجتهدت في صنع انعدام الثقة معه. فقد كان هنالك تصور لديها بأن الحاضنين الدوليين والإقليميين، يمكن أن يضعوا المتاريس في وجه الشعب، ويمنعونه من التصدي لها من أجل انتزاع حقوقه. لذلك تغولوا وتنمروا وباتوا يسرقون ثروات البلاد في العلن، وعندما تفوح رائحة بعضهم من كثرة الفساد المالي، ويضطرون إلى تنحيتهم جانبا، يذهبون إلى سن قانون يعفيهم ويعيدهم مجددا إلى مناصبهم. كل ذلك أوجد حالة من انعدام الرؤية المشتركة بين المواطن والسلطات لمستقبل البلاد، ولا أي إمكانية للتوافق على الأولويات في سلم الإصلاحات.
وإذا كان البعض يعزي التظاهرات إلى إقصاء قائد عسكري، أو مؤامرة تمت حياكتها في القاعدة الأميركية كما يقولون، فإن من يتوسل بهذه العناصر ويجعلها مسببات للانتفاضة العراقية، هو بعيد جدا عن الواقع العراقي. فالأسباب التي تدفع الناس للخروج على السلطات كثيرة ومعقدة وليست وليدة اليوم. كما أنه من غير الممكن تبسيطها بهذا الشكل الساذج. إنها أزمة بنيوية تضرب في جذور العلاقة القائمة بين السلطات والشعب، بعد أن حققت هذه السلطات العدالة في الظلم، فمست جميع الفئات. وسرق الفساد اللقمة من جميع الأفواه. ودخلت الاعتقالات إلى كل بيت. وتشاركت جميع العوائل في الإقصاء والتهميش والتغييب والتهجير. كما أن الاحتجاجات المنتظمة باتت هي العلاقة الأبرز في الساحة العراقية منذ عام 2015، أي قبل إقالة القائد العسكري الذي يتحدثون عنه، وقبل المؤامرة الاميركية المزعومة، التي تحدث عنها زعيم ميليشاوي، بل إن من يُعزي التظاهرات إلى هذه الاسباب إنما يغبن حق الشعب العراقي، لأنه لا ينظر إليه على أنه شعب يتوق للكرامة والعزة والحياة الحرة الكريمة، بل شعب مستكين إلى وضعه المزري، وصحوته مرتبطة بمؤثرات خارجية فقط، إنه تبسيط ساذج لمشكلة أكبر وأعمق، بل هي جريمة إنسانية تمارسها طبقة سياسية وضيعة ضد الشعب والوطن.
إن خيبة الأمل التي باتت زادا للعراقيين في كل يوم، والفشل المتكرر الذي كان ديدن كل الوجوه التي حلّت في المركز الاول للسلطة، وتسلط الأميين والفاسدين والجهلة على زمام الامور في البلاد، مضافا إلى كل ذلك الخديعة الكبرى في مفهوم الديمقراطية، وعجز آلية التصويت في تغيير المسار الأعوج للسلطات الحاكمة، والإتيان بوجوه جديدة من خارج المنظومة السياسية الفاسدة، كلها عوامل وضعت الشعب العراقي في مواجهة مصيره، كما بينت له حقيقة واحدة وهي أن الشارع هو الميدان الوحيد في المنازلة الكبرى لانتزاع الحقوق.
صحيح أن اختيار هذا الطريق فيه خطورة كبيرة وخسائر محسوبة وغير محسوبة، ظهرت للعيان في بغداد والمحافظات، حينما انهمر الرصاص الحي على المتظاهرين السلميين، وقطعت الطرق وأعلن حظر التجوال، وانتشر القناصة والميليشيات لقمع التظاهرات، ودوهم العديد من الدور للبحث عن المشاركين في الانتفاضة، لكن ذلك لم يمنع الشعب من التعبير عن غضبه، من خلال إسقاط رموز مادية ومعنوية للعملية السياسية، شملت حرق مقرات الأحزاب ومكاتب الميليشيات المتنفذه، إنها عدالة المقهور الذي انطلق غضبه ولم يعد قادرا على كظمه. وهنا تبرز علامة فارقة في هذه الانتفاضة، وهي أن المشاركين فيها هم من فئة الشباب، الذين سلطت الأحزاب الطائفية والميليشيات الإجرامية كل ورش تفكيرها المعطوب عليهم، كي تؤثر فيهم وتقودهم معصوبي الأعين محنطي العقول إلى اتباع منهجها خلال الستة عشر عاما الماضية. فكانت المفاجأة مدوية في أن هذه الفئة هي التي كانت رأس الحربة في المواجهة، وهو مؤشر كبير على وعي الذات ووعي الواقع، والتلمس الناجح للطريق الصحيح في إحداث التغيير المنشود.
وفي ظل هذا المشهد فإن الاكثر بؤسا فيه هو رئيس الوزراء الحالي، الذي جيء به من الصفوف المنسية كي يحافظ على مصالح الجميع إلا مصالح الشعب العراقي، لأنه غير قادر على القيام بهذه المهمة، فهو رجل التوافق الاميركي ـ الايراني، الذي يوجب عليه أن يحافظ على مصالحهما من خلال منصبه. إنه اليوم في شرك كبير فضغوط هذين الفاعلين باتت تكسر الظهر، في ظل الصراع المحتدم بينهما، مضافا إليها ضغوط شعبية ليست قابلة للتأجيل.
إن إدامة زخم التظاهرات حاجة ملحة ليس لاستحصال الحقوق وحسب، بل لإدخال العامل الشعبي في المعادلة السياسية التي تعمدت إبعاده عن المشاركة في صنع القرار. فالاستمرار بالتظاهرات من دون توقف، لن يعطي مساحة انتهازية للسلطات الحاكمة كي تعيد ترتيب أوراقها، وتلتقط الانفاس في ظل الأزمة.
كما أن هذا العامل يبقي جذوة الحدث متقدة، ويلقي مزيدا من الضوء على الحالة العراقية، التي سعت أطراف عربية وإقليمية ودولية لرفعها من قائمة الاهتمام الدولي. كذلك إدامة الزخم يساعد على كسب المترددين والمنتظرين فينحازون إلى الانتفاضة.

نشر المقال هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :133,410,475

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"