«إنه الوطن»… يقول شباب العراق

هيفاء زنكنة

في الأسبوع الرابع من المظاهرات في العراق، التي شملت عديد المدن في أرجاء البلاد، وبعد استشهاد 200 متظاهر وجرح حوالي ثمانية آلاف، لم يعد المتظاهرون الشباب يطالبون، فقط، بتحسين الخدمات. تكلفة الحياة الثمينة دفعتهم إلى إعادة ترتيب الأولويات.

تعافوا من المطالب الخدماتية منذ تصنيع «العملية السياسية» وليدة الاحتلال الانكلو أميركي عام 2003. تراجعت مطالب الماء الصالح للشرب والكهرباء والخدمات الصحية، على أهميتها القصوى، وهي ليست منة حزبية أو حكومية، بل من أساسيات حقوق الإنسان، وقاعدة هرم الاحتياجات الإنسانية التي ترتقي بالشعوب، ليعود إلى الواجهة أحد المطالب التي برزت أثناء مظاهرات تموز/ يوليو 2018، مع اختلاف مهم. اذ عاد المطلب، أساسيا وبشكل جماعي أقوى وأعمق هذه المرة، وبالتزامن مع المطالبة بحرية الرأي والمساواة بين المواطنين. صارت الهمسة صرخة تنادي «نريد الوطن».

بعد أن أثبت المتظاهرون أنهم خارج الأحزاب، بأنواعها، والمرجعيات الدينية بأنواعها، وتجار الفساد والتبعية للمحتل بأنواعه، لم يعودوا بحاجة إلى إثبات نقائهم الديني والمذهبي ودفع تهم الاندساس والإرهاب والبعث، وبعد أن نفضوا عن أنفسهم الخوف من التهم الجاهزة، المانعة لخروجهم إلى شوارع مدنهم واستعادة ملكيتها (الشوارع ملك للناس، للشعب… أليس كذلك؟)، صار الشعار المختلف الذي شهد ولادة طبيعية، من صميم حراكهم ومبارك بقدسية دمائهم هو «نريد الوطن». مطلب تبناه الشباب في داخل وخارج العراق، لاستعادة ما سلب منهم، وامتد كما لاحظنا من مظاهرات لبنان، في الأيام الأخيرة، إلى بلدان أخرى، بينما تستمر تصريحات الساسة ورجال الدين في إدانة العنف والفساد، كأنهم ليسوا غارقين فيهما، وكأن الشهداء يتساقطون نتيجة تغير مفاجئ في درجات الحرارة وليس قناصة النظام.

«نريد الوطن»، مطلب عضوي يماثل بانتشاره «الشعب يريد اسقاط النظام»، متضمنا، في الوقت نفسه، ما هو أبعد من مجرد اسقاط النظام، ومأسسة المحاصة الطائفية وتوزيع أسهم الفساد. حيث يطمح المتظاهرون إلى البناء، إلى التوحيد بديلا لسياسة التفكيك الاستعمارية المنفذة بالنيابة. إلى العيش في وطن لا مقاطعات القرون المظلمة. إنهم، يعملون من أجل هدف، تم تغييبه عمدا، خلال سنوات الاحتلال وحكامه بالنيابة، ممن ساهموا، ولايزالون، في تفتيت مفهوم الوطن، والترويج للهوية «السائلة»، والولاء لمن يقدم «العرض الأفضل»، ما دام الوطن، حسب منظورهم، سينمحي، تدريجيا، إزاء القبول بالواقع الجديد.

بعد أن أثبت المتظاهرون انهم خارج الاحزاب، بأنواعها، والمرجعيات الدينية بأنواعها، وتجار الفساد والتبعية للمحتل بأنواعه، لم يعودوا بحاجة الى اثبات نقائهم الديني والمذهبي ودفع تهم الاندساس والإرهاب

سواء كان الواقع مضمخا بوعود ديمقراطية المحتل الأميركي أو دكتاتورية ولاية الفقيه. كلاهما يريدان، بشكل أو آخر، اختزال الوطن ـ العراق بطبقات معانيه، المتعددة، العميقة في ثرائها، إلى ايديولوجيا السرير الحديدي المعد سلفا، كما صنعه الحداد وقاطع الطريق اليوناني بروكرست، الذي كان يهاجم الناس ويقوم أما بمط أجسادهم أو قطع أرجلهم ليتناسب طول أجسامهم مع سريره الحديدي. فالسياسة الاستعمارية الجديدة، لم يطرأ تغير كبير على فحواها: إنها تعتاش وترتزق على مغذي الحاكم المحلي، العبد الذي يحصل على ترقية، فيُسمح له بالخدمة في بيت السيد بدلا من الحقل، إذا كان يخدمه بإخلاص، كما وصف المغني الأميركي الأسود هاري بيلافونتي رجلاً أسود آخر هو كولن باول، وزير الخارجية الأميركي أثناء غزو العراق.

انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي دعوة المتظاهرين للمطالبة بحق لا ينص عليه ميثاق حقوق الإنسان، بهذا الشكل المباشر، الصريح : نريد الوطن. وهي خطوة أذهلت كل أحزاب «العملية السياسية»، من الإسلامية إلى العلمانية، ومن القومية إلى الشيوعية، والتي تاجرت جميعا بتحالفاتها، من انتخاب «ديمقراطي» إلى آخر، تحت شعارات ظاهرها محاربة الفساد والمحاصصة، وباطنها «معا من أجل المحاصصة والفساد». لم تعد التظاهرات مرهونة بخدعة نحن ضد الفساد، نحن نزهاء. نحن مع سيادة العراق، نحن وطنيون.

ولعل أكبر خدع الاحتواء التي عاشها المتظاهرون على مدى سنوات الاحتلال هي التي يطلقها «سماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد مقتدى الصدر دام عزه»، الذي يروج له، بعد تحالف الحزب الشيوعي معه في الانتخابات والبرلمان، أنه «مدني». فالمعروف، ومن مراجعة بسيطة، لمجريات المظاهرات السابقة، أنه من يتدخل دائما، بالتعاون مع المرجعية الدينية، على انقاذ النظام، في لحظات اقتراب المتظاهرين من تحقيق التغيير. فهو الذي منح نظام نوري المالكي مهلة ستة أشهر لإجراء الاصلاحات الخدمية التي طالب بها المتظاهرون عام 2011 بعد أن كان رئيس الوزراء نوري المالكي نفسه قد طلب مهلة شهر واحد. ثم عاد ومنح المالكي مهلة أخرى بعد أن خرج المتظاهرون لمطالبة حكومة نوري المالكي بتقديم استقالتها، وكانت النتيجة احتواء المتظاهرين ووضع حد للمظاهرات عبر استخدام أجهزة النظام القمعية واختيار مقتدى الصدر الانزواء في إيران. وكرر التكتيك نفسه مع متظاهري البصرة وغيرها في سنوات تالية مغادرا العراق في لحظات الأزمات الحادة بذريعة الدراسة حينا وكتابة الشعر في حين آخر. وها هو يعود اليوم، بعد صمت لا يضاهيه غير صمت مرجعية النجف على قتل المتظاهرين وتزايد أعداد المختطفين والمعتقلين، واستنكار المنظمات الحقوقية الدولية، واصرار المتظاهرين على الاستمرار، محاولا أن يمدد بقاء ساسة العملية السياسية الفاسدين، وهو وتحالفه جزء لا يتجزأ منها، عبر تخدير الانتفاضة بشعاراته المعتادة «كلا كلا أميركا» و «كلا كلا للفساد… نعم نعم للإصلاح».

يعلمنا التاريخ أن عمر مغازلة الأوهام وشعبوية الخطاب السياسي، ونشر سياسة القبول بالأمر الواقع، وتخويف المطالبين بتغييره بالفوضى، خدعة قد تنطلي على الشعوب لفترة إلا أنها لن تطول. وخدعة الاصلاح، بعد مرور 16 عاما من فقدان السيادة الوطنية وبؤس الحياة اليومية، والمشاريع الوهمية، لم تعد تنطلي على أحد مهما حاول الساسة تعليبها بشكل جذاب. وحين يخرج الشباب متظاهرين، مطالبين باستعادة ملكيتهم للوطن، فلأنهم يدركون أن دماء الشهداء لا تغسلها وعود القتلة، وأن التعويضات المادية لا تعيد للأمهات أبناءهم، ومنح الشهداء «منزلة الشهيد» من قبل القتلة هو امتهان لكرامة المنتفضين. وهو مخدر سيوفر للفاسدين المستغلين ديمومة بقائهم. وإبقاء المواطن في غيبوبة، مربوطا بآلة تنفس اصطناعي. إنه الميت الحي وهو المطلوب.

نشر المقال هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :133,412,154

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"