هل يُعزل سيد البيت الأبيض؟

مثنى عبدالله

لم تشهد أروقة البيت الأبيض رئيسا إشكاليا مثل الرئيس الحالي دونالد ترمب، إلى الحد الذي ذهب فيه البعض للقول بأن الرجل هو من يصطنع هذه الإشكالية لنفسه، كي يبدو رئيسا استثنائيا بكل المعايير والمقاييس، فيتميز عن كل أسلافه، لأنه مولع بالتميز. فلا عجب أن بدأت رحلته في البيت الأبيض بشبهة دخول الروس في التأثير على الانتخابات الأميركية لصالحه، مرورا بتهم أخرى كثيرة، حتى وصلنا اليوم إلى تهمة الاستعانة بدولة أجنبية في محاولة لإسقاط منافسه في الانتخابات الرئاسية المقبلة.

في منتصف آب/أغسطس الماضي قام أحد المخبرين التابعين لأجهزة الاستخبارات الأميركية، بالإبلاغ عن فحوى مكالمة هاتفية حصلت بين ترمب والرئيس الأوكراني فأثارت قلقه. تبين في ما بعد أن ترمب طلب من مُحدّثه التحقيق في مزاعم فساد طالت نجل منافسه مرشح الرئاسة الديمقراطي جو بايدن، عندما كان يعمل نائبا لرئيس إحدى الشركات التي تعمل في مجال الطاقة في أوكرانيا. وقد تشكلت حول هذا الطلب العديد من الشكوك، التي أثارها سلوك ترمب شخصيا. فقبل أسبوع من المحادثة الهاتفية كان قد طلب أيقاف ما يقرب من 400 مليون دولار مساعدات عسكرية أميركية إلى أوكرانيا.
كما أنه في حديثه مع الرئيس الأوكراني كان يؤكد على أن الولايات المتحدة تساعد أوكرانيا أكثر من الاتحاد الأوروبي. وقد فُهم من هذه الإشارات أن ترمب كان يحاول ابتزاز الطرف الآخر، بغية حثه على الموافقة في تقديم شيء قد يستخدمه ضد منافسه في الانتخابات، حيث أنه لم يتحدث مع الرئيس الأوكراني عن قضية مازال التحقيق فيها مستمرا، ولم يكن في كلامه ما يفسّر على أنه محاربة الفساد على سبيل المثال، أيضا أنها لم تكن قضية مستمرة ينظر فيها القضاء على الساحة الأميركية، ويمكن القول إنه كان يطلب معلومات من أوكرانيا للمساعدة في التحقيق، ما يعني أن الموضوع لا يمت بأي صلة لتعاون دولي في قضية فساد حصلت من قبل مواطن أميركي على أرض أوكرانيا.
وفي ضوء هذه المؤشرات تم الدفع بالموضوع إلى خانة الاستعانة بدولة أجنبية في تنافس سياسي داخلي، إضافة إلى استغلال الرئيس موارد الدولة الأميركية، كالمنصب والمساعدات المالية والعسكرية، لتحقيق مصلحة شخصية له. ولأن ترمب ومنذ 3 سنوات هو تحت مراقبة مجلسي الشيوخ والنواب، في القضية المعروفة بعلاقته مع الروس، فإن الحزب الديمقراطي كان في انتظار هذه اللحظة، على اعتبار أن الرئيس يتصرف بشكل مخالف للقانون والدستور، ويطلب مساعدة دولة أجنبية ضد مواطن أميركي، وعليه فقد أعلنت رئيسة مجلس النواب أن تحقيقا رسميا قد فُتح بهدف عزل الرئيس وفق اتهامات، متضمنه خيانة يمين المنصب، وخيانة أمن الأمة، بتجنيد سلطة أجنبية لتشويه سمعة منافسه من أجل الكسب السياسي. وهذه كلها تُهم تقع تحت بند في الدستور الاميركي ينص على أن الرئيس (قد يُعزل من المنصب في حالة اتهامه بالخيانة، أو الرشوة، أو غيرها من الجرائم والجنح الخطيرة). والعزل عملية معقدة تبدأ في مجلس النواب وتحتاج إلى أغلبية بسيطة لتمريرها، لكن المحاكمة تجري في مجلس الشيوخ وتحتاج إلى أصوات تأييد من قبل ثلثي الأعضاء من أجل تمرير عزل الرئيس. فالمادة الأولى من الدستور الأمريكي تخول مجلس النواب بدء التحقيقات، لكنها في فقرتها الثانية تحصر حق إدانة الرئيس بمجلس الشيوخ، في حال أثبت النواب التهم الموجهة ضده، وهذه تتطلب موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ، كشرط أساسي لعزل الرئيس. وهو أمر لم يحصل في تاريخ الولايات المتحدة سوى لثلاثة رؤساء مُررت إجراءات العزل بحقهم، لكنها لم تصل إلى النهاية بحق اثنين، منهم آندرو جونسون عام 1868 وبيل كلينتون عام 1999، بسبب عدم الحصول على أصوات ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ، فيما استقال الثالث قبل عزله، وهو الرئيس الاميركي الاسبق نيكسون في قضية ووترغيت.

الغريب أنه حتى وقت قريب كانت سمة التحفظ طاغية على الديمقراطيين في موضوع السير بهذا الاتجاه ضد الرئيس، خشية من العواقب السياسية المترتبة على موضوع العزل. وقد قاومت رئيسة مجلس النواب الديمقراطية دعوات كثيرة من الجناح اليساري في الحزب للتحقيق مع ترمب في قضايا سابقة، لكنهم اليوم يقولون بأن القضية الحالية تختلف كليا عن ما سبقها، ويرون أن فيها عوامل نجاح لهم أكثر من غيرها. كما أن الاتهامات لمرشحهم الرئاسي جو بايدن، التي تقول بأنه استغل منصبه عندما كان نائبا للرئيس أوباما، في الضغط على الرئيس الأوكراني السابق من أجل إزاحة المحقق الذي كان يحقق في تهم فساد ضد ابنه، قد حفزتهم للدفاع عنه من خلال إثارة هذا الموضوع. والحقيقة هو أن جو بايدن نفسه تباهى بضغطه على رئيس أوكرانيا السابق، فهنالك فيديو منشور على اليوتيوب يتحدث فيه بايدن قائلا، إنه ذهب إلى أوكرانيا وقال للرئيس لديك ست ساعات فقط، إما أن تزيح المحقق الذي يحقق مع ابني، أو أنني سأقطع المساعدات عن أوكرانيا، والتي كانت بحدود 6.1 مليار دولار سنويا.
وعلى الرغم من أن الأزمة الحالية هي من أخطر مراحل حكم ترمب، بعد فشل الديمقراطيين في إدانته بموضوع التدخل الروسي في الانتخابات الاميركية، فإن الورقة الرابحة بيده في المواجهة الحالية هي مجلس الشيوخ، الذي يسيطر عليه الجمهوريين والذين لن يتخلوا عنه. على الرغم من أن في صفوف الجمهوريين من لا يؤيده، لكن خروجه من التحقيق من دون عزله سيكون استثمارا سياسيا كبيرا في السير نحو الولاية الثانية، حيث سيحاول إقناع الناخبين المعتدلين والمترددين، من أن محاولة عزله كانت تنافسا سياسيا غير شريف، وسيركز على أن الديمقراطيين لا يعيرون أي اهتمام بحياة المواطن، وهمهم الوحيد هو عرقلة الرئيس وإدخاله في معارك جانبية تؤثر على مستقبلهم. كما أنه سيستغل هذه القضية في النيل من أجهزة الاستخبارات الاميركية، كي يدخل للولاية الثانية وقد سيطر على كافة المؤسسات الرقابية، ولأن الديمقراطيين يعلمون بأن خروج ترمب سالما معافى من هذه الازمة قد يصب في حملته الانتخابية، فهم سوف يحاولون إنجاز مهمة العزل بسرعة كبيرة، كي لا تترافق مع الحملة الانتخابية وتكون تأثيراتها سلبية عليهم في حالة فشلهم. ومع ذلك فإن إجراءات العزل ستلقي ظلالها على المشهد السياسي، وستدخل الولايات المتحدة في معركة داخلية شرسة، حدود الربح والخسارة فيها غير معروفة وغير مؤكدة. كما أنها ستشكل فصلا جديدا من فصول الحياة السياسية الأمريكية، ومرحلة من مراحل رئيس يتصرف في كثير من الاحيان خارج الضوابط وقيم الثقافة السياسية المعروفة لمن يسكن البيت الابيض.

نشر المقال هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :133,486,303

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"