ما هي محرّكات إيران في علاقاتها الخارجية؟ 3

نزار السامرائي
الجزء الثالث والأخير
ومع ذلك يبقى سؤال لماذا اُستبعدت تركيا عن هذا الدور المحوري للتوازن الاستراتيجي في المنطقة بحاجة إلى جواب شافٍ، وهل مُنح هذا الدور لإيران كهبة من الدول الكبرى أم استطاعت أن تنتزعه لنفسها بصبرها وتضحيتها؟

تركيا كانت وعلى الدوام ومنذ قيام جمهورية أتاتورك عام 1923 جزءً فاعلا من التحالف الغربي حتى أنها نزعت عن نفسها كل صلاتها بماضيها الإسلامي، وراحت تبالغ في إظهار العلمنة المتطرفة في التشريعات التي أصدرتها والتطبيقات التي بالغت وضعها موضع التنفيذ، وكانت في هذا التوجه أكثر تطرفا من الغربيين أنفسهم، ولكن على ما يبدو أن فرصتها الحقيقية قد انتهت حتى وهي تمتلك ثاني أكبر جيش في حلف شمالي الأطلسي، فهذا لم يغير من نظرة الغرب إليها بأنها دولة إسلامية الجذور، وبقيت أوربا تنظر إليها بريبة التاريخ وليس بعين الحاضر، وتحطمت كل محاولاتها للانضمام إلى الاتحاد الأوربي على سبيل المثال، كما تحطمت محاولات العثمانيين لدخول فيينا بعد حصارها عام 1529، ولم يكن ذلك بسبب قوة فيينا ولا بسبب ضعف العثمانيين، وإنما لأن بلاد فارس كانت قد فتحت للعثمانيين جبهة حرب على حدودهم الجنوبية الشرقية، فكان هذا التطور دافعا لانكفاء الدور العثماني في أوربا والتفرغ لمواجهة الأخطار الإقليمية الناشئة عن قيام الدولة الصفوية عام 1500.
فهل يمكن القول إن انضمام تركيا إلى حلف شمالي الأطلسي لم يشفع لها في التنصل من ماضيها الإسلامي ومحاولاتها التوسع على حساب أوربا المسيحية أم أن تطور الوعي الإنساني دفعه لمزيد من التسامح الديني والعرقي.
ترى أوربا أن تركيا تحاول في الوقت الراهن بالقوة الناعمة التمدد في أوربا لتحقيق أمنيات فشلت في تحقيقها بالقوة الخشنة في القرون الوسطى، وهكذا ظلت نظرة الغرب إلى تركيا تتعامل معها، على أساس فرضية أنها إن امتلكت عناصر القوة فمعنى ذلك أنها ستبحث عن فرصة لإعادة أمجادها الإمبراطورية، ومما عزز هذا التصور في الأوساط السياسية والإعلامية الغربية، التوجهات السياسية التركية بعد وصول رجب طيب أردوغان إلى السلطة، والتي يشوبها عدم استقرار على خيار واحد مع طرح أفكار وشعارات سياسية ممتزجة بخلفيات دينية، تجعل الغرب يضع يده على قلبه قلقا من مستقبل تركيا ذات التوجهات الإسلامية، يحصل كل هذا بعد أن نجحت سياسات أردوغان في تحديث الركائز الاقتصادية ونقل تركيا من مراتب متأخرة بين اقتصادات دول العالم إلى الاقتصاد العشرين، كما نجح في إدخال إصلاحات سياسية عميقة في بلد ظل يعاني من الانقلابات العسكرية لزمن طويل، ولهذا يلاحظ المراقب أن تركيا تخضع لرصد من الدوائر السياسية ومراكز الدراسات الغربية، مع انتقادات شديدة لأية خطوة تقدم عليها حكومة أردوغان، في حين أن غضا للنظر عن سلوك إيران المزعزع لأمن 4 دول عربية وتدمير منظومة الدولة في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن وعمليات التصفية المنهجية التي تمارسها إيران على أسس طائفية هو العلامة الواضحة لهذا التغاضي وتصدير الإرهاب الحقيقي من هذه المنصات إلى دول العالم.
تركيا إذن غير مسموح لها أن تجتاز الحد المرسوم لها دوليا في قدراتها العسكرية والاقتصادية، ثم إن تركيا التي تسند ظهرها على حليف قوي هو روسيا، لا يمكنها الاطمئنان إلى النوايا الروسية على المدى البعيد، فتركيا كانت قاعدة متقدمة للتحالف الغربي المضاد للاتحاد السوفيتي السابق والذي ورثت روسيا الاتحادية تركته، مع تاريخ طويل من النزاعات العسكرية بين روسيا القيصرية والدولة العثمانية.
ولكن لماذا فشل العربُ من حيث نجحت إيران؟ أي في توظيف المتاح من الأسلحة لديها وهو كثير ويفوق ما لدى إيران بأضعاف مضاعفة، ولماذا يتردد العرب حد الخوف وتمضي إيران في تحديها للمجتمع الدولي من دون تردد ومن دون خشية؟ ولماذا أهملت الدول العربية المضطهدين من المكونات القومية والدينية في إيران؟ هل هناك خط أحمر أعلى من أي جدار لقصر ملكي أو أميري أو رئاسي؟ أو أن خارطة إيران مقدسة من وجهة نظر أمريكية ولا يمكن التفكير بتعديلها حتى لو واصل نظام الولي الفقيه ممارسة أسوأ أنواع الاضطهاد بحق المكونات الدينية والقومية؟ أم أن اتاحة الفرصة ليهود إيران بممارسة شعائرهم بحرية مطلقة، هو جواز مرور لإيران نحو الفضاء السياسي الدولي المفتوح.
العرب خارج التاريخ والجغرافية وسيبقون على هذا النحو إلى أن تظهر في الأفق علامات تشير إلى أنهم اختاروا لأنفسهم مشروع أمنٍ ذاتي يعتمد على استراتيجية أمنٍ قومي بمعزلٍ عن تأثيرات القوى الكبرى وخاصة الولايات المتحدة التي تعاملت معهم وكأنها مرابٍ محترف مع صبية طائشين لا يحسنون إنفاق أموالٍ هائلة نزلت عليهم من السماء، خاصة وأن للغرب وبسبب الرقابة البرلمانية والصحفية التي تفرضها على المسؤولين الرسميين، فإن هناك قيودا صارمة على الإنفاق الشخصي من المال العام، وهذا في حال مقارنته مع ما يحصل في دول النفط العربية، سيؤدي إلى إساءة لا تخص من يقوم بذلك فقط وإنما تشمل حكوماتهم وبلدانهم بل والعرب جميعا مما يجعلهم هدفا لحملة كراهية منظمة تنفيسا عن عقدٍ تاريخية يتم إلباسها لبوسا حضارية متمدنة تَصِمُ العرب بأن العرب متخلفون ولا يعرفون من الحياة المتمدنة المعاصرة شيئا، ويراقب زوّار الدول الخليجية من المسؤولين الغربيين، الولائم الباذخة التي يقيمها حكام تلك الدول من المال العام والذبائح التي تنحر على شرف هؤلاء وتقدم مع هياكلها العظمية على موائد عظيمة في قصور فارهة بما لا يتناسب في كمية الغذاء المقدم مع عدد الضيوف، وتكون تلك الظواهر سببا في إلحاق الأذى بالسمعة العربية إلى حدود بعيدة.
إن أولاد المسؤولين العرب الذين ينفقون أموالهم على موائد القمار في دول الغرب والشرق، وينثرون ملايين الدولارات على الراقصات في ليالٍ ماجنة، ويشترون أغلى العقارات في المدن الأوربية في تنافس محموم فيما بينهم، ولم يتوقف الأمر عند أبناء المسؤولين الخليجيين فقط، بل دخل على الخط وبقوة فاقت في سنوات معدودات ما أنفقه أثرياء الخليج العربي خلال عقود طويلة، فمنذ 2003 أي بعد احتلال العراق دخل على خط الفساد مسؤولون من العراق ممن جاء مع المحتل الأميركي وتحولت الملايين التي كان يبذرها الخليجيون من المال العام إلى مليارات من الدولارات تُنفق على العقارات والسهرات الماجنة واقتناء السيارات الفارهة، ثم دخل على الخط رجال أعمال من أتباع النظام السوري ليلتحقوا بركب الفساد والنهب المنظم، وقطعا لا تسيء هذه الممارسات إلى من يقوم بها ولا إلى أسرهم أو حكومات بلدانهم وإنما تعتبر سببا للإساءة إلى صورة العرب جميعا في المجتمع الدولي.
فالعرب على هذا الفهم المجتزأ هم الذين أساءوا إلى أنفسهم وأعطوا أعداءهم مادة الطعن بهم، فضلا عن المنطق العشائري والبدوي في تنظيم علاقاتهم مع بعضهم صداقة أو كراهية، مما لا يدع مجالا للغة المصلحة الوطنية والقومية مكانا، ولا يترك خطاً للتراجع عن القطيعة، ذبحوا أهم مشروع للصعود القومي متمثلا بتجربة العراق فتآمروا عليه ولم يتوقفوا عن خططهم حتى تم احتلال العراق إيرانياً بصفقة الأمر الواقع بين الغرب المسيحي ودين التشيّع.
التقى كل ذلك مع توجهات سياسية لقبول إيران بصرف النظر عن توجهاتها، فالغرب والشرق معاً لا يجدان في التشيّع خطراً حقيقيا على المدى البعيد عليهما، لا سيما وأن بلاد فارس لم تُقِمْ إمبراطورية على حدود أوربا على الرغم من أن فارس دخلت في حرب طاحنة مع بلاد الروم أرخّها القران الكريم في سورة الروم، وهكذا تعززت القناعة القديمة مع تصورات الوقت الحاضر التي تترسخ عبر حركة لولبية ينفذها معممون منتشرون في قارات العالم أجمع ودبلوماسيون مزيفون منحدرون من حوزات شيعية إيرانية أو مرتبطة بالولي الفقيه يتكلمون اللغة العربية ويطرحون فكرا فارسيّا تدعمهم في ذلك عشرات الفضائيات التي تبث برامجها بلغات حية تسوّق للمشروع الإيراني، ويتلخص واجب هذه المنابر في التركيز على أن التشيّع لا يحمل في جوهره نوايا عدوانية تجاه الدول الأخرى على عكس الإسلام السني ذي الفكر السلفي العدواني الإرهابي على حد وصفهم والذي وظفت إيران بعض معمميه على نحو يخدم خططها للتقرب للغرب.

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :133,486,569

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"