"طريق الحرير» في «تريستا»

محمد عارف

الإيطاليون اكتشفوا أميركا للأميركيين، وعلّموا الإنجليز التجارة، وعلموا الألمان فنون الحرب، والفرنسيين فنونَ الطبخ، والروس رقصَ الباليه.

وفي الأسبوع الماضي علّم الإيطاليون دول الاتحاد الأوروبي كيف تنضّم إلى «طريق الحرير» الذي جَعلَ «ميناء تريستا» الإيطالي على بحر الأدرياتيك بوابة الصين إلى أوروبا والعالم.
وفَعَل الإيطاليون ذلك بدهاء «ميكيافيلي» وحكمة «غرامشي»، وجرأة «صوفيا لورين»، ولا تَستبعدُ «نيويورك تايمز» أن توضع ماركة «صُنع في إيطاليا» على سلع صينية يجمعها عمال إيطاليون يعملون لحساب الشركات الصينية مع نظيرتها الإيطالية، ويشحنونها في عربات السكك الحديدية إلى باقي دول أوروبا أو إلى الصين نفسها.
وقد عَقدت إيطاليا 29 صفقة مع الزعيم الصيني «شي» بلغت قيمتها نحو 3 مليارات دولار.
وبعد إيطاليا زار الزعيم الصيني موناكو وفرنسا، حيث عقد صفقة 34 مليار دولار لشراء 300 طائرة «إيرباص». وانضمّت إليهما في باريس المستشارة الألمانية «ميركيل»، ورئيس مفوضية الاتحاد الأوروبي «يونكر». ولم تصدر عن اللقاء الصيني الأوروبي أي إشارة إلى «نهاية عصر الثقة الساذجة بالصين»، التي حذّر منها إيطاليا الرئيسُ الفرنسي «ماكرون»، بل وجدها بالأحرى فرصةً لمراجعة حسابات أوروبا مع الرئيس الأميركي «ترمب» الذي تنَكّرَ لاتفاقية باريس للمناخ، وللاتفاق النووي مع إيران. وقد تحدث «ماكرون» عن «اهتزاز نظام الأمور، ومسؤولية فرنسا والصين كعضوين دائمين في مجلس الأمن»، وقال: «حقق البلدان تقدماً في موضوع اتفاقية المناخ ورفع القيود عن استيراد لحوم البقر والدجاج الفرنسية».
و«تريستا» الواقعة على بحر الأدرياتيك شمال شرق إيطاليا، بوابة طريق الحرير إلى قناة السويس، وموانئ البحر الأحمر والخليج العربي.
والمهم في مذكرة التفاهم الصينية الإيطالية مغزاها السياسي، فهي تؤشر إلى تراجع النفوذ الأميركي وصعود الصين، وتشي بالتوترات بين دول الاتحاد الأوروبي.
و«أوروبا تحاول أن تركب على متن الضغط الذي تمارسه واشنطن على الصين، لكن ذلك قد يُحدث تغييرات معينة لا تقتصر على أميركا وحدها، بل تشمل الدول الأخرى التي تملك علاقات مع الصين». ذكر ذلك «شين دينغلي»، المختص بالشؤون الدولية في شنغهاي.
ومما يستحق التأمل أن تكون الدول الشيوعية السابقة سبّاقة بين دول أوروبا إلى عقد اتفاقيات مع الصين، وهي حسب التسلسل تشيكيا، وهنغاريا، ومقدونيا، ومونتينغرو، وبولندا، وصربيا، وروسيا (الحليف الاستراتيجي الأول والأكبر للصين اقتصادياً وعسكرياً).
وأوروبا غير معنية بالدخول في الحرب التجارية بين بكين وواشنطن، فالصين أكبر سوق للسلع الأوروبية الكمالية. ومن غير الصحيح اتهام الصين بعدم الشفافية في عملياتها التجارية. «فلا نفع قط من عدم الشفافية في الأعمال»، حسب «دينغ أويان» عميد «كلية الصين الأوروبية الدولية للأعمال»، والذي يذكر: «لو كان لعدم الشفافية نفع لما قامت الصين بإصلاحاتها الاقتصادية، ولما اتّبعت سياسة الانفتاح، ولما زال من الوجود الاتحاد السوفييتي، ولبقيت موسكو أقوى من واشنطن».
ويُعقدُ في الشهر الحالي في بكين «منتدى التعاون الدولي للحزام والطريق»، ويكشف انعقاده عن عبث التحذير الأميركي بأن «الجيل الخامس» من تقنيات الاتصالات، التي طوّرتها شركة «هواوي» الصينية تضم أدوات تجسس على ملايين مستخدميها في الاتصالات.
فالدول المشاركة في «منتدى بكين» لم تتراجع عن تقنيات «هواوي 5» وبينها حليفة واشنطن بريطانيا، وألمانيا. ومن الناحية التاريخية فإن «هواوي 5» بحد ذاتها أخطر أدوات عرفها العالم. فالتقنية التي طوّرتها تُسيّر شبكة الاتصالات اللاسلكية، والأدوات ذاتية التشغيل، ولا يمكن من دونها أن تعمل ملايين العربات، والطائرات، والبواخر دون سوّاق.
وتشكل تكنولوجيا «هواوي 5» مرحلة جديدة في الثورة العلمية التكنولوجية، والتي تستدعي ثورة مماثلة في علاقات الإنتاج، وفق المصطلح الماركسي الشهير. وإن استمرار التناقض بين أدوات الإنتاج وعلاقات الإنتاج هو سبب النزاعات والحروب، التي أودت بحياة الملايين عبر القرنين الماضيين، والقرن الحالي أيضاً على ما يبدو.

نشر المقال هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :133,414,114

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"