الراوي وكتاب بغداد

حميد سعيد

لم ألتق يوماً، الدكتور عبدالستار الراوي، السفير السابق وأستاذ الفلسفة الإسلامية في جامعة بغداد، إلا وحدثني عن مشروع ثقافي، أنجزه أو في سبيله إلى إنجازه، فهو مثقف موسوعي وباحث جاد وشاعر ورسام، وله في كل من هذه الأجناس الثقافية حضور متميز، وما زلت أحتفظ بمجموعته الشعرية “فردوس الكرخ” التي صدرت في العام 2000 وأكدت شخصيته الإبداعية المتميزة، بل ما زلت أتذكر بداياته الشعرية في ستينات القرن الماضي أيام كان طالبا بكلية الآداب بجامعة بغداد، وكنت أحسب أنه سيكون من بين أهم شعراء جيلنا، كما اطلعت على عدد من لوحاته التشكيلية، لكن لم تتح لي فرصة مشاهدة أي معرض من المعارض التي أقامها كما قرأت في الصحافة الثقافية في بغداد، أو في طهران أيام كان سفيرا للعراق في إيران، غير أنه ومنذ أن نال شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة الإسكندرية في العام 1977، كاد أن ينصرف إلى البحث الفكري وبخاصة الفلسفي منه، من دون أن ينقطع عن توجهاته الأخرى في الشعر والرسم والفولكلور.

ومن مؤلفاته المهمة “العقل والحرية” وهو قراءة فلسفية في فكر القاضي عبدالجبار المعتزلي، و”ثورة العقل” وهي دراسة في فكر معتزلة بغداد، و”فلسفة العقل، رؤية نقدية للنظرية الاعتزالية” و”الأيديولوجيا والأساطير”، و”التصوف والباراسايكولوجي”، و”ظاهرة الإسلام السياسي”، و”الفكر الفلسفي اليهودي المعاصر” وغيرها، حتى كأن الدكتور الراوي يعيش ليكتب، وعاش ليكون باحثاً.

بعد احتلال العراق، وكان سفيراً للعراق في إيران، استدعي إلى بغداد، وطلبت منه لجنة تتشكل من 3 أميركيين وعراقي متعاون مع الاحتلال، أن يقدم طلباً إلى سلطة الاحتلال يلتمس فيه من بول بريمر إبقاءه في وظيفته الدبلوماسية، غير أنه أجاب: أنا مواطن عراقي، صدر أمر تعييني من رئيس جمهورية العراق، لذا لن أتقدم بمثل هذا الطلب، وأرغب بالعودة إلى موقعي الأكاديمي، في جامعة بغداد، لذا فقد جميع حقوقه المدنية كما رفض طلب عودته إلى الجامعة.

ومنذ أن اضطر إلى مغادرة العراق، وهو يتنقل من بلد إلى آخر، غير أنه واصل البحث والتأليف ولم ينصرف إلى التباكي على ما كان وذم الزمان كما فعل بعض أقرانه.

ومما كتبه وهو يعيش بعيداً عن وطنه وبيته ومكتبته وأرشيفه، كتاب “الفكر السياسي الإيراني المعاصر” و”قاموس العقل الأميركي” وقد بدأ العمل به منذ العام 2003، تناول فيه مصطلحات الحرب على العراق وما ترتب على الاحتلال من تداعيات وما نتج عنها من وقائع، وقد صدر ب3 مجلدات.

لقد تواصلنا مؤخراً، فحدثني عن مشروعه الموسوعي الجديد، الذي بدأ العمل به تحت عنوان “كتاب بغداد” وكان التواصل تحديداً بشأن النصوص الشعرية التي كتبت عن بغداد بعد الاحتلال، ما اختاره منها وما اقترح عليه مما أراه مناسباً لمشروعه من نصوص شعرية.

ثم أتيح لي أن أطّلع على هذا المشروع، فأجده مشروعا ثقافيا تاريخيا بالغ الأهمية، في ما يتعلق بماضي بغداد وحاضرها ومستقبلها، إذ يتناول تاريخ بغداد وأصل اسمها، ومكانتها الحضارية في العصر العباسي، ومن ثم الغزو المغولي، الوقائع والتداعيات، وما قيل عنها في الشعر العربي، وبخاصة المراثي، قديمها وجديدها، أي المراثي التي كتبت عنها بعد الغزو المغولي والمراثي التي كتبت عنها بعد الاحتلال الأميركي الإيراني، ومما تضمنه “كتاب بغداد”، بغداد في القرن العشرين والاحتلال ونتائجه.

إن هذا المشروع يأتي في وقت تتعرض فيه بغداد للتخريب، اجتماعياً وثقافياً، حضوراً ودوراً، وكأن الذين جاء بهم المحتلون مكلفون بهذا الدور، فليس من صفحة بيضاء فيها إلا واستهدفت بالتشويه والمحو.

نشر المقال هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :133,414,757

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"