حول مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي

الصورة: آخر صورة للمرحوم جمال خاشقجي، وهو يهمّ بدخول القنصلية السعودية في إسطنبول، حيث قتل واختفت جثته.

ضرغام الدباغ

بدءاً لابد أن نثبّت مبدأ: أن قتل أي إنسان وتصفيته، إن اغتيالاً، أو حتى بالإعدام بعد محاكمة عادلة ‏‏(بتقديري) هي ليست الوسيلة الدقيقة لتصحيح خطأ ما.

 

الهيئة الاجتماعية التي تشرّع القوانين لا تتعامل ‏بالغضب، أو بردود الأفعال على الأفعال. بل هناك قوانين، وكلما كانت القوانين راقية، فهي تتعامل مع ‏بشر يفترض أنهم في مجتمع راقي، ومن المعروف أن القوانين دليل على رقي أي شعب.‏

ثم أن هناك طائفة من المبادئ‎ ‎والحقائق، منها مثلاً أن واجب ومهام الممثليات الدبلوماسية هي تمثيل ‏الدولة عند الدولة المستضيفة، بالدرجة الأولى، ومن ثم تعتبر الممثليات الدبلوماسية على اختلاف ‏أنواعها ودرجاتها: سفارة / قنصلية عامة، أو أي ممثلية تمنحها الدولة المضيفة الحصانة وسائر الحقوق ‏الدبلوماسية، وتعتبرها امتداد للدولة ووجود لها، وبالتالي في أرض وطنية، وحددت اتفاقية فيينا ‏للعلاقات الدبلوماسية صلاحياتها بدقة تامة، ومنحت الحصانة الدبلوماسية للعاملين على أرض الممثلية، ‏وهذه الحصانة تعني مزايا عديدة، منها عدم جواز تفتيش مقر الممثلية أو مساكن العاملين بدرجاتهم ‏الدبلوماسية،  ووسائط نقلهم (السيارات، وسائر العربات).  (المواد 22، 35 إلى 39 من اتفاقية فيينا ‏‏1961)‏

وبهذا المعنى، فإن الممثلية الدبلوماسية هي ليست المكان المناسب، لأن تقوم الدولة صاحبة الممثلية ‏بتصفية حسابات، أو محاسبة مواطنين بلادها المقيمين بالخارج، وتنفيذ عقوبات، بأي وسيلة كانت، بما ‏في ذلك الاعتداء عليه بالكلام أو بإيقاع الأذى البدني، وصولاً للقتل. وإن حدث شيء من هذا القبيل، ‏فالقوانين تحدد الجهة التي لها صلاحية المساءلة القانونية، والأمر خارج الرؤى الشخصية والسياسية ‏والمقترحات.‏

في حالة وقوع جريمة من الدرجة الأولى، كالقتل، بصرف النظر من يكون القاتل أو المقتول، فهي ‏جريمة وقعت على الأراضي الوطنية للدولة صاحبة الممثلية، ولا يحق لطرف آخر التدخل واتخاذ ‏إجراءات، إلا في حالة موافقة الممثلية (بعد موافقة المركز) على التنازل عن حصانتها، لتقوم الدولة ‏المضيفة بإجراءاتها بالتعاون مع سلطات دولة المضيفة، وكل هذا يتم بطلب، بالوسائل الدبلوماسية ‏وبتصرفات دقيقة، وهو ما جرى في حادثة القنصلية السعودية في اسطنبول التي قتل فيها الصحفي السعودي جمال خاشقجي (أكتوبر/ 2018).‏

وموافقة السلطات السعودية على نزع الحصانة، اختياريا، هو دليل أكيد على نية التعاون وكشف ‏ملابسات الحادث الذي أدى في مفرداته إلى وقوع الجريمة. ولكن الإشكالية سوف لن تنتهِ هنا، فأي ‏محكمة سوف تحكم في الحادث؟! ثم وفق أي قوانين؟! وكيف وأين ستوقع العقوبة بالجاني (أو بالجناة)؟! ‏وكيف ستنفذ؟! وهذه عقبات ينبغي التعامل بها بمرونة واحترام متبادل بين الدولة صاحبة الممثلية ‏الدبلوماسية، وبين الدولة المستضيفة.‏

في حادثة مقتل الصحفي خاشقجي تحديداً، عدا عن الحادث وإشكالاته على صعد عديدة، يلاحظ ‏التدخل الدولي الواسع النطاق والغير مبرر. والأمر بداهة لا يتعلق بالجانب الإنساني أو القانوني، ‏فالشأن بنسبة كبيرة منه (في معظمه) شأن سياسي، انعكس ذلك في تدخل رؤساء دول شخصياً، والإدلاء ‏بتصريحات ملتهبة، واستباق نتائج التحقيق، واختلاق روايات وأحداث وهو أمر لا يليق بمكانة الدول ‏وقادتها، بل بلغ الأمر حتى درجة أن تعمد وكالات أنباء عالمية محترمة، إلى تزوير صور وأفلام ‏بطرق التزوير المعروفة (فوتوشوب) بل ونشر أنباء عن تسجيلات جرى تداولها حتى على مستوى ‏رؤساء الدول، وزعامات دولية تستبق التحقيق وتقترح وتقرر، وهي لا علاقة رسمية لها بالحادث. ‏والهدف واضح هو إلقاء الوقود على الساحة لتحويلها لمشهد سياسي، قد يكون فيه المرحوم خاشقجي، ‏غير مهم البتة.‏

وحوادث القتل داخل السفارات ليست كثيرة، ولكنها حدثت على أية حال في ظروف مختلفة، أشهرها ‏مقتل القنصل العراقي العام في مومباي الهندية، على يد مواطن عراقي آخر، قبل عقود. وحوادث اغتيال ‏دبلوماسيين كثيرة جداً في التاريخ القديم والحديث. بدوافع سياسية أو جنائية، وبعيداً عن الابتزاز السياسي ‏‏(الشانتاغ)، فالأمر بصرف النظر عن الأسماء، والزمان والمكان، حادثة بوسع القانون التعامل ‏معها، إذا أريد للقضية أن تحل بسلاسة، ولكن في واقعة الخاشقجي، يبدو واضحاً أن هناك مصالح تريد ‏أن تتخذ منها ذريعة لمآرب أخرى، ومدخلاً لمواقف وتطورات.‏

في التاريخ السياسي القديم والوسيط والحديث، الحوادث التي تدور عن تصفية الدول لخصومها ‏السياسيين الهاربين إلى الخارج بوسائل متعددة قد حدثت بحالات كثيرة جداً، وقد مارستها جميع الدول، ‏وخاصة الدول الكبرى في كافة أرجاء العالم. وأغلب تلك الحوادث قامت بها بعثات دبلوماسية، ‏بالأحرى موظفون يحملون صفة دبلوماسية. ومن المعروف تماماً، أن سفارات الدول العظمى وغير ‏العظمى، تضم في عداد كوادرها، موظفين أمن واستخبارات، وليس نادراً أن يمارس هؤلاء أنشطة ‏ممنوعة تدخل في إطار المخالفة الصريحة لقوانين الدول المضيفة، منها الحصول على المعلومات ‏بطرق غير شرعية (التجسس) وتهريب السلاح، وغيره من المواد (تحف، آثار، مخدرات)، وصولاً إلى ‏تهريب الأفراد من دولة إلى دولة أخرى، لأسباب سياسية وغير سياسية، ونشاطات مالية ‏محظورة(تهريب عملة)، أو اعتقال (أو اختطاف) معارضين أو مطلوبين أمام المحاكم الوطنية بتهم ‏مختلفة، وشحنهم للبلاد بأساليب تنطوي على التحايل على القانون، التجاء شخصيات سياسية إلى ‏سفارات، وبالطبع تجري هذه الأحداث بدرجات متفاوتة من الدقة، وهي في النتيجة أنشطة غير مشرفة ‏على أية حال.‏

ولكن مثل هذه الأحداث التي تحدث كثيراً، الفارق بينها هو أن بعض الدول لديها عناصر مدربة تدريباً ‏راقياً، ولديها وسائل قتل عالية الدقة، تمارس عملها "القتل" بأناقة، دون أن تحدث ضجيجاً، ثم أن ‏التغطية السياسية لأعمالها متوفرة، فتضمن عدم محاسبتها. فالولايات المتحدة مثلاً لا تقبل محاسبة ‏مواطنيها مهما ارتكبوا من جرائم، وخاصة رجال المخابرات وأفراد القوات المسلحة. وسيطرتها على ‏وسائل الإعلام يخفف الضجيج الإعلامي، فتمر الجرائم بهدوء مر السحاب أو النسائم .

ونستطيع أن ‏نعدد فوراً ودون اللجوء للمصادر عشرات الجرائم الأنيقة، التي قامت بها أجهزة مخابرات الدول ‏العظمى، ولم تنل إلا شكوى وأنيناً صامتاً. بل وأحياناً يتكون تلك الاغتيالات والخطف مبعث فخر ‏واعتزاز لأجهزة مخابراتها، فتخرج أفلام سينمائية عنها (أفلام جيمس بوند ورامبو وغيرها الكثير).‏

وبجهد بسيط جداً توصلنا إلى إحصائيات تشير إلى مقتل أعداد الصحفيين فيما يطلق عليها "مهنة ‏المتاعب" :‏

ــ عام 20015 قتل نحو 110 صحفيين في مختلف أرجاء العالم.‏

ــ عام 2016  قتل نحو 74 صحفياً في مختلف أرجاء العالم.‏

ــ عام 2017  قتل نحو 81  صحفياً في مختلف أرجاء العالم.‏

ــ خلال النصف الأول من عام 2018 قتل نحو 81 صحفياً في مختلف أرجاء العالم.‏

ــ بلغ عدد السجناء الصحفيين والعاملين في الصحافة المئات.‏

لا أريد القول بهذا أن  مصرع الصحفي جمال خاشقجي، هو حدث اعتيادي، ليمرَّ كحادث سير بسيط، ‏ولكن أيضاً من غير المعقول، أن يجري التعامل معه كشأن سياسي الهدف منه وضع السعودية أو ‏تركيا في موضع الاتهام، وتصفية حسابات مع أي منهما في شأنٍ، القانون والقائمين به هم الطرف الأول ‏والأخير فيه.

ولكن إبداء الأسف المتزايد حيال جرائم يومية مروّعة والسكوت عنها، يبدو كضرب من ‏النفاق.

فالحادثة جرت على أرض سعودية، والمواطن سعودي، والجهات القانونية السعودية هي الوحيدة ‏التي تملك الحق بالنظر في القضية، وإذا تنازلت السعودية وقبلت المشاركة التركية، فهذا دليل تعاون ‏وليس تشنج.‏

الجهات التي تندب بعد مرور أكثر من 20 يوماً على الواقعة، زاعمة أنها تنوح على الإنسانية وحقوق الإنسان، لم ‏تتفوه بكلمة واحدة على ملايين، نعم ملايين، الجرائم التي تحدث في العراق وسوريا وفلسطين ‏وغيرها.. وقد دمر بلد كامل بتهمة مزيفة للأسلحة الكيمياوية، فيما يضرب الشعب السوري بالأسلحة ‏الكيمياوية جهاراً نهاراً دون فعل يوقف الجاني الذي كررها أكثر من مرة. ونحن نعلم أن أحداثاً كبيرة ‏جرت قامت بها دول كبرى لا علاقة لها بالقانون والقوانين،  ويحق هنا ترديد بيت الشعر المشهور "قتل إأمرئ في غابة جريمة لا تغتفر، وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر".‏

كان خاشقجي في حالات متعددة يكثر اللعب بالقرب من خط الجزاء! ربما كان قد تلقى تدريباً ليلعب ‏بمهارة، وهكذا فقد لعب في أفغانستان وغيرها، واشتغل بالأجهزة الحساسة، وربما اشتغل كعميل ‏مزدوج، ولعب ألعاباً خطرة، مسيئة للأمن القومي لبلاده التي رعته وعمل لها، ولم يصن أسرارها، بل ‏وضع نفسه في خدمة من يدفع أكثر (ملاحظة من هيئة تحرير وجهات نظر: هذه تهم لم تثبت بحق المرحوم خاشقجي ويتحمل الكاتب مسؤوليتها) وله في قريبة عدنان خاشقجي أسوة، فالرجل كوَّن ثروة ‏خيالية من أعمال سوداء غير مشرفة، في تجارة السلاح السرية لقوى وجهات غير نظامية، وصفقات ‏سرية كإيران كونترا، تديرها المخابرات الدولية، جمع منها ثروة طائلة دفع منها لمطلقته نحو 600 ‏مليون دولار فقط، ففي هذا العالم السري لا أحد يسأل من أين يسيل المال؟ فهنا يعتبر من الهواة، ‏"أعمل لأجل المال فقط"، هذا هو مبدأ من لا مبدأ لهم.

نعم البكاء على المصائب جميل، ولكن جني ‏الأموال أجمل وأمتع. فلم نسمع أن عدنان خاشقجي، أو أبن عمه جمال، قد تبرع بمائة دولار لمساكين ‏تحت القصف أو تحت الاحتلال.‏

أكرر، عدم قبولنا قتل أي إنسان هو مبدأ، ولكن لتكن ردود أفعالنا خالية من الغضب، ومن التشفي، أو ‏الكيد، والكيل بمكيالين وسواها من الألعاب الغير نظيفة.‏


comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :133,412,940

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"