الاستثمار في دماء أهل البصرة

مثنى عبدالله

كما كان متوقعا لم تسفر الجلسة الاستثنائية للبرلمان العراقي، التي عقدت يوم السبت الماضي لمناقشة أوضاع البصرة عن شي، سوى تبادل للاتهامات بين رئيس الحكومة ومحافظ البصرة وزعماء كتل سياسية. فمنذ الغزو والاحتلال في عام 2003 وحتى اليوم، يستمر مسلسل الاستثمار السياسي في كل شيء في العراق حتى في دماء الابرياء. 

لا وازع ديني ولا أخلاقي ولا إنساني يمكنه أن يوقف هذا الفعل، لأن القوى المتسلطة تجد نفسها أنها أكبر من كل هذه القيم، بل هي تُعرّف نفسها بأنها حاملة لواء هذه القيم وممثلها الشرعي والوحيد. وأنهم يمنّون علينا بأنهم كانوا محررين، وهم الذين أعادوا السيادة والاستقلال، ومن جلبوا حكم الشعب وسيادة القانون. 
في حين يعرف العالم كله أي لصوص هم، وأي نفق مظلم وضعوا فيه حاضر ومستقبل العراقيين. فهل بعد كل ذلك يمكن أن نأمل من دعيّ بارقة أمل؟ ومن لص إعادة ما سرق؟ ومن مدمن على القتل العودة إلى رشده؟ 
إنه هراء ما بعده هراء ذلك الذي يسيل من أفواه كل المسؤولين في العراق، ونحن نرى فوهات البنادق تعود مجددا لتصوّب نحو صدور العراقيين في البصرة، فحتى يوم السبت الماضي بلغ عدد الضحايا من بين صفوف المتظاهرين اثني عشر شخصا، وفاق عدد الجرحى المئة. ومع ذلك يقول رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، إنه لم يعطِ الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين في البصرة. والقائد الأعلى للقوات في المحافظة ينفي إعطاءه الأوامر بذلك، إذن من أين صدرت الأوامر لهذه القوات؟ ولو بحثنا في التصريحات والتبريرات التي ساقها رئيس الوزراء وزعماء الكتل والأحزاب، والحكومتان المركزية والمحلية، لوجدنا أن العراقيين لا يعيشون في كنف دولة ولا سلطات مسؤولة، بل في القرون الوسطى. فهو رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، ومع ذلك يتحدث عن من قام بقتل المتظاهرين وكأنهم أشباح، محاولا إلقاء التهمة على جهات وفاعلين لا يمكن لأحد أن يتعرف عليهم حتى بعد ألف عام. 
إنه يقول بأن الفاعل هو «من يحاول الإيقاع بين المواطنين والقوات الأمنية»، وإنه أمر بفتح تحقيق في الأمر. وهذا يعطي تصورا كامل الوضوح عن دور رئيس الوزراء وإمكانياته في المساحة السياسية التي يشغلها. ففي كل أسبوع يظهر في مؤتمر صحافي لتغطية الأحداث، يتحدث فيه بالصيغة نفسها عمن يعرقلون سير عمل الحكومة ويخرقون القانون، من دون أن ينبس ببنت شفة عن من هم وعن الجهات التي تدعمهم. وهذا نموذج لمن يحكمون العراق اليوم، حيث لا ينفكون عن اتهام جهات مجهولة بتحريك الناس ضدهم، وكأنّ المواطن في هذا البلد مجرد لعبة بيد كل من يريد تحريكه لمصالحه، أو كأنّ العراقيين فقدوا الإحساس بإنسانيتهم وبات فقدان الخدمات والجوع والأمراض والأمية والبطالة، كلها لا تثير فيهم أي غضب أو اعتراض أو تحرك بالضد من الوضع الذي يعيشون فيه. ومرد كل هذا هو أن الذين في المشهد السياسي مازالوا يعتقدون بأنهم هم المنقذ للعراق والعراقيين، وأن من يخرج عليهم حاملا غضبه في صدره إما متآمر أو جاحد. وبالتالي ليس من علاج لمواجهة هذا الحراك غير القتل .
إن استمرار المظاهرات من دون حل يُذكر سوى اجتماعات ولجان ولقاءات غير مفيدة، يعطي المواطن شعورا بأن صوته لا يُسمع، وأن القائمين على أموره قد جردوه من إنسانيته بعد أن منعوا عنه حق الحياة الكريمة. وعندما يتم اختزال الوضع في البصرة بأنه ناجم عن خلافات بين الحكومة المركزية ومجلس المحافظة حول أمور مالية وإجرائية، فإن ذلك يعطي انطباعا بضياع حقوق المواطنين بين الجهتين. وهنا سنكون أمام عامل اليأس الذي سيدخل بقوة في المشهد، ما يدفع المتظاهرين لتغيير صورة التظاهر السلمي الذي استمروا عليه في الفترة الماضية، عندها سوف لن يكون المواطن مسؤولا عما سيحصل، بل السلطات التي تعمّدت الصمم، ولعل ما حصل مؤخرا من حرق لمقرات الاحزاب والميليشيات والعصابات المسلحة والقنصلية الايرانية، دليل واضح على أن المواطن يعرف تماما أن ما يمر به من ضنك العيش وصعوبة الحياة، إنما مرده التلاعب القذر الذي يدور بين هذه القوة الخارجية وأذرعها في الداخل وبين الاخرين. لكن ذلك لن يمر من دون استثمار سياسي من قبل الاحزاب التي فازت في الانتخابات، وتلك التي خسرت فيها. والهدف منه تحسين شروط التفاوض لكلا الطرفين بغية تشكيل الكتلة الأكبر التي سيكون من حقها تشكيل الحكومة. فالتلكؤ في معالجة الأزمة وعدم تقديم حلول آنية سريعة تُرضي الناس، يعود إلى رغبة أطراف في حلبة الصراع السياسي، منهم رئيس الوزراء الحالي والمتحالفون معه، في إطالة زمن الحراك ودفعه باتجاه العنف لتحقيق مكاسب سياسية، حيث أن تجحفل المتظاهرين ضد الرموز الايرانية المباشرة كالقنصلية، وغير المباشرة كمقرات أذرعها في البصرة، سوف يجعل الشارع العراقي وبعض أحزاب الاسلام السياسي السني والاكراد، ممن ما زالوا مترددين في الانضمام إلى أي الطرفين لتشكيل الكتلة الاكبر، يلتفون حول رئيس الوزراء، على اعتبار أنه ليس مصنفا في خانة إيران. بينما الفريق الآخر الذي يمثل أذرع إيران، يسعى حثيثا لعرقلة أي اتجاه لإيجاد حلول تحقق مطالب المحتجين، كي يُجيّش الشارع على رئيس الوزراء الحالي، ما يجعل حلفاءه ينفضون من حوله، ويفقد فرصة الحصول على ولاية ثانية، لذلك وجدنا زعماء هذا الفريق ذهبوا مبكرين لدعوته لتقديم استقالته.
وفي خضم هذا الحراك الجماهيري الشرعي والقانوني، وبينما تتصارع أطراف كثيرة داخلية وخارجية لتجييره لصالحها، تبقى المرجعيات الدينية تُغلف مواقفها بالغموض، وتحرص على عدم الإعلان الصريح عن موقف حاسم في هذا الحدث الكبير. لقد آن الأوان لها لأن تتوقف عن الركون إلى إبداء النصح وحده، فخمسة عشر عاما من الجوع والتعذيب والقتل والتغييب والإقصاء والتهميش والسرقات الكبرى، كافية تماما لأن تنحاز وبشكل علني وواضح إلى المتظاهرين، وأن تشد على أيديهم بأن يواصلوا حراكهم ويطوروه إلى اعتصامات تعم البلاد جميعا حتى سقوط هذه الطغمة الفاسدة. ففي هذا الظرف يجب أن يبرز موقف الزعامات المعنوية إلى الوجود، كما برز في مواقف كثيرة في تاريخ العراق الحديث. وعكس ذلك فسينالها الكثير من التشكيك والطعن في مواقفها والانفضاض من حولها، خاصة عندما يركب اليأس والغضب رؤوس المتظاهرين، الذين يواجهون الرصاص الحي بصدورهم.

نشر المقال هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :133,412,544

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"