حماية الأرشيف التونسي ونهب الأرشيف العراقي

الصورة: حرق ونهب الوثائق العراقية واحدة من أكبر جرائم الاحتلال

هيفاء زنكنة

أصدرت «هيئة الحقيقة والكرامة»، بتونس، بلاغا، في الاسبوع الماضي، موجها إلى أصحاب الملفات المودعة لديها من ضحايا انتهاكات حقوق الانسان والتي «لم يستوف فيها التحري نظرا لضعف المؤيدات». دعتهم في البلاغ إلى « تقديم مؤيداتهم أو شهاداتهم أو أي توضيحات إضافية كتابيا تؤيد تصريحاتهم وذلك لتجنب رفض الملفات التي تفتقر إلى مؤيدات كافية». 

يؤكد البلاغ عدة قضايا مهمة حول طبيعة عمل الهيئة التي تعتبر نموذجا يستحق المتابعة في بقية البلدان العربية ومنها العراق. أهم النقاط هي قيام الهيئة باجراء التحريات، بشكل دقيق، عن صحة تصريحات المتقدمين اليها كضحايا. 
ومن ثم توفير الفرصة لهم لتقديم ما يثبت قضاياهم قبل انتهاء عمل الهيئة. النقطة الثانية تتعلق بطبيعة عمل الهيئة والفترة الزمنية التي يغطيها عملها وكفاءة العاملين فيها. النقطة الثالثة تتعلق بما هو أشمل، أي أن الهيئة انجاز تونسي، وطني، بحت، تم بعد الثورة، بقانون خاص أقره ممثلو الشعب التونسي، لتوثيق ومعالجة انتهاكات حقوق الإنسان في عهدي الرئيس الحبيب بورقيبة (1957 ـ 1987) وخلفه زين العابدين بن علي (1987 ـ 2011)، وذلك «بكشف حقيقتها ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها وجبر ضرر الضحايا ورد الاعتبار لهم بما يحقق المصالحة الوطنية». ويجري العمل، الآن، بعد انتهاء عمل الهيئة على تسليم أرشيف الهيئة، بكل الملفات، كاملا، وفي النسخة الاصلية إلى الارشيف الوطني وذلك «لأهمية الذاكرة وكيفية حفظها للأجيال المقبلة، لإنجاح مسار العدالة الانتقالية باعتبارها أداة للمصالحة الوطنية الحقيقية والمستدامة». 
ذكر هذه الحقائق مهم عند مقارنة تجربة الهيئة التونسية، التي واجهت عديد التحديات والمصاعب، بتجربة «مؤسسة الذاكرة العراقية»، التي يحمل هدفها المعلن، بعض التشابه مع هدف الهيئة التونسية، إلى ان توقف العمل فيها، بعد 3 سنوات من نقلها إلى بغداد. لماذا توقفت؟ هل لقلة الضحايا، وهم كثر، منذ عهد الاستقلال الوطني؟ 
عند اجراء المقارنة، يتضح زيف ادعاءات مؤسسيها وكيف نجحوا بالحاق الضرر بمفهوم الحقيقة والتوثيق والمصالحة الوطنية. فالمؤسسة، أولا، غير مستقلة من ناحية التمويل وبالتالي الإدارة. اذ اعتمدت، منذ تأسيسها بواشنطن، بالتزامن مع اصدار الادارة الأميركية «قانون تحرير العراق»، على عقود نفذتها لصالح وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون). ثانيا، كيفية تجميعها للوثائق. تأسست، بداية، عام 1993، باسم» «مشروع البحوث والتوثيق العراقي»، بعد ان رافق باحث عراقي يدعى كنعان مكية منتج أفلام من الــ «بي بي سي»، لتصوير فيلم عن «حملة الانفال»، أثر اعلان أميركا وبريطانيا شمال العراق منطقة آمنة. قام كنعان مكية، حينها، بشحن كل ما تمكن من الحصول عليه من الوثائق العراقية المهمة إلى أميركا.

كانت تلك خطوة « الباحث» الاولى في استمراره باخراج الوثائق والمخطوطات الاصلية والمذكرات والملفات، بانواعها، من العراق، بحجة كشف « الحقيقة» مما قد يساعد « على دمل جراح مجتمع عومل بقسوة سياسية على اعلى المستويات». وهي مهمة نبيلة، حقا، فيما لو كانت مستقلة فعلا، ومبنية على العمل لتحقيق العدالة لكل العراقيين، وكل حقب الانتهاكات وليس اقتصارها على فترة حكم واحدة، ولم تسخر لنهب ما هو ملك للشعب العراقي، ويشكل جزءا من ذاكرته الوطنية، وتسليمه كغنيمة إلى اجهزة مخابرات ذات الدولة التي قامت بغزو العراق وتخريب بنيته التحتية ،وسببت حرق ونهب المتاحف والمكتبة الوطنية والمعارض والجامعات. وكانت جمعيتا أمناء الارشفة الأميركيين والكنديين قد أصدرتا بيانا، 22 نيسان/أبريل 2008، أدانت فيه عمل المؤسسة، بقوة، جاء فيه «ذهبت مؤسسة ذاكرة العراق، وهي منظمة غير حكومية مقرها الولايات المتحدة، إلى بغداد بعد فترة وجيزة من الغزو وبدأت في جمع أكبر عدد ممكن من الوثائق التي يمكن أن تجدها. بموجب قوانين الحرب، يمكن اعتبار ما قامت به من أعمال النهب، وهو أمر محظور بشكل خاص بموجب اتفاقية لاهاي لعام 1907».
فكيف تقوم مؤسسة كهذه بتضميد جراح سنوات حكم البعث ( 1968 ـ 2003)، ونزيف دم الضحايا، منذ غزو البلد واحتلاله (2003 ـ حتى اليوم) لم يتوقف يوما، خاصة وأن مؤسسها مكية، نفسه، كان من المحرضين على الغزو، وهو الذي تبرع بطمأنة الرئيس الأميركي جورج بوش، عندما تساءل عن موقف العراقيين من احتلال بلادهم، فهدأ مكية من روعه قائلا: «سيستقبلونك بالازهار والحلوى». وكتب في يومياته عن قصف بغداد في « حملة الصدمة والترويع»، في 2003، « ان صوت القصف موسيقى لأذني». 
المفارقة الأخرى، ان يتم تعيين مصطفى الكاظمي، عضو حزب الدعوة الإسلامي الحاكم، ومدير مشروع التاريخ الشفهي في المؤسسة، رئيسا لجهاز المخابرات. فما هي مصداقية التاريخ الذي يوثقه شخص غير محايد، يسيره الاحساس بالمظلومية، كما تدل مقابلات أجريت معه؟ ما هي مؤهلاته الوظيفية في هذا المجال الحساس؟ كيف قام بالتحري عن اصحاب الشهادات الشفهية وتأييد ما سجله؟ أم ان عمله لا يزيد عن كونه وجها آخر من أوجه الاستهانة بآلام الضحايا وعذاباتهم، مما سيؤدي بالنتيجة إلى فقدان الثقة بأي عمل مستقل يتوخى توثيق والمحافظة على الذاكرة الوطنية مستقبلا؟ 
ان الذاكرة الوطنية هي ذاكرة الشعب كله كما تدون وتدقق، ثروة من محفوظات تعود ملكيتها إلى الشعب كله، ليستخلص منها الدروس التي تجنبه تكرار المآسي وتمده بالقوة من اجل بناء المستقبل. في مجال حقوق الانسان، للارشيف دور أساسي في تحقيق العدالة وحفظ الأدلة ومنع مقترفي الجرائم من الافلات من العقاب، ومنع التزوير، والأفعال الكيدية، لتفادي خلق ضحايا جدد، وإهدار المال العام بدون تمحيص. ومن مسؤولية الحكومات المحافظة على الوثائق، والأرشفة السليمة للمحفوظات هي مفتاح لبقاء الأدلة وسلامتها. وهذا لم يحدث بالعراق، منذ ان قامت القوات الأميركية بتجميع الوثائق العراقية عند غزو العراق للكويت عام 1990 وحرقها بذريعة العفن، حتى اليوم، حيث لاتزال ملايين الصفحات من الوثائق موجودة في أميركا، بعد تصنيفها كوثائق سرية او جعلها متاحة لباحثين قام عدد منهم بترجمة ونشر صفحات منها، تم اختيارها وتحليلها بشكل انتقائي. وهي طامة تضاف إلى جرائم النهب والتخريب المتعمد، اذ تتعزز النظرة الدونية الينا، حين يحلل ويكتب الآخرون تاريخنا، وفق منظورهم الخاص، وبلغتهم، وايديولوجيتهم، بينما لا تتاح لنا فرصة الاطلاع على وثائقنا، لصعوبة وتعقيدات الوصول اليها في أميركا، بينما المفروض ان تكون موجودة في مكانها الطبيعي وهو الارشيف الوطني العراقي. والاهم من ذلك كله، حين الشروع بتأسيس هيئة للحقيقة تستفيد من التجربة التونسية، ان يتم توثيق شهادات جميع الضحايا، بضمنهم ضحايا الاحتلال، ومن قبل عراقيون يعرفون معنى الوطنية.

نشر المقال هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :133,411,942

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"