طهران: هرولة اللحظة الأخيرة

د. مثنى عبدالله

دخل الاتفاق النووي الإيراني في نفق مظلم، وباتت طهران في مرمى النيران الأميركية. لكن الحرب بينهما لن تندلع، لأنه في حسابات الربح والخسارة تبقى سياسات طهران وتهديداتها للأمن والسلم في المنطقة، تدر أرباحا مادية وسياسية كبيرة لواشنطن، وليس من مصلحتها تجفيف هذا النبع. 

كما أن الولايات المتحدة بحاجة ماسة إلى معادلة يتوازن فيها الرعب في الشرق الأوسط، كي تتحكم بخيوط اللعبة عن بعد بدون الانغماس في المنطقة. وعلى الرغم مما نسمعه من تهديدات وتهديدات مقابلة، فإن ذلك يدخل في ما يسمى (دبلوماسية السلاح) لتحقيق أهداف سياسية لكل طرف. ولأن الاتفاق النووي قفز بالاقتصاد الإيراني إلى حالة نمو بلغت 12% في عام 2016، ثم انحدر النمو إلى 5.3% في عام 2017 بسبب التهديدات الأميركية بالانسحاب منه. كما تأثرت العملة الإيرانية حتى بلغت 42 ألف ريال للدولار الواحد، وتبعتها حالة تضخم وارتفاع أسعار وتفاقم المشاكل الاجتماعية.

هذه المشاكل دفعت إلى تقديم خطاب يحمل نبرة تهديد من قبل ثلثي النواب الايرانيين إلى الرئيس الإيراني لتغيير فريقه الاقتصادي مؤخرا. كل هذه الأسباب وغيرها ضغطت على طهران لبذل المستحيل للحفاظ على الاتفاق، خاصة أن واشنطن بدت وكأنها عازمة على تجفيف مصادر التمويل التي تحيا بها إيران. ولتجنب الوقوع في هذا الموقف جاءت زيارة روحاني إلى بعض الدول الاوروبية للحصول على موقف مساند لها، وهي جولة تندرج في العلاقات الدولية ضمن إطار ما يسمى (إدارة الازمة)، لكن هل فعلا أوروبا قادرة على إنقاذ طهران من هذا المأزق؟

تشعر الدول الأوروبية بأنها في مأزق حقيقي تجاه هذا الموضوع. فبين عامي 2005 – 2006 لعبت هذه الدول دورا في إقناع الولايات المتحدة للانضمام للتفاوض مع طهران، ثم جاءت إدارة أوباما التي اندفعت ذاتيا في هذا الاتجاه. واليوم تأتي إدارة أخرى تهاجم الاتفاق وتنسحب منه، في الوقت نفسه يعاني فيه الاتحاد الأوروبي من مواقف متباينة، فهم منقسمون حيال العقوبات على طهران، وحيال خروج الولايات المتحدة من الاتفاق. بعضهم يقول بأن الاتفاق أصلا سعت إليه واشنطن وخروجها منه لم يبق شيئا منه. والبعض الآخر لا ينظرون إلى الاتفاق النووي على أنه متخصص بالبرنامج النووي وحسب، بل في نظرهم هو اتفاق أمني وجيوسياسي مهم لاوروبا، لأنهم يعتبرون أنفسهم قريبين جدا من حدود إيران وليسوا بعيدين عنها كأميركا. ومع ذلك جميعهم يتفقون على أن هامش المناورة قليل أمامهم، في ظل تداخل مصالحهم مع واشنطن والشركات متعددة الجنسيات.

هنا يبرز المنطق الأوروبي القائم على عدم الانحياز لطرف على حساب آخر في اللعبة السياسية. هم يريدون إيران لانها سوق تجاري مهم وضخم، كما أنها مهمة بالنسبة للحضور الأوروبي في آسيا والشرق الاوسط. لكن وفي الوقت نفسه هم يتعاملون مع أميركا بوجه آخر، والأخيرة لا تشعر بالقلق من هذا الحراك، لأنها تعلم جيدا بأن الاتحاد الاوروبي منظومة غير منسجمة. كما أن الكبار فيه مثل المانيا وبريطانيا كلتيهما لديها التزام سياسي وأيديولوجي معها، وتبقى فرنسا وحدها قادرة على لعب دور الوسيط في هذه اللعبة.

الفرنسيون ودول أوروبية أخرى يتحركون اليوم في هذا الملف من منطلقين، سياسي واقتصادي. سياسيا، هم يحاولون استثمار حرص طهران على البقاء في الاتفاق للضغط عليها بتطويره، كي يشمل مسألة الصواريخ البالستية والنفوذ في المنطقة، وسيكون جاذبا لعودة الولايات المتحدة إليه مرة أخرى، حينها سيسجل كنجاح دبلوماسي كبير لهم. وعلى الرغم من أن طهران تبدو ليس لديها قناعة في هذا الموضوع اليوم. لكنها يمكن أن تدخل في مفاوضات سرية حوله من باب اللعب على الوقت. من جهة تريد أن ترى ما إذا كان الاوروبيون قادرين على احترام التزاماتهم الاقتصادية معها أم لا. ومن جهة أخرى لكسب الوقت كي ترى إن كان ترمب سيبقى إلى ولاية ثانية أم لا. اقتصاديا، ومن منطلق قول روحاني (سنبقى إن كانت هنالك فائدة اقتصادية)، فالأوربيون يحاولون إقناع طهران بأنهم قادرون على تهيئة الظروف المناسبة للشركات الاوروبية للاستمرار في العمل في إيران، وأن لا تتأثر بالعقوبات الأميركية. تدفعهم في هذا الاتجاه الفرص الاقتصادية الكبرى للشركات الاوروبية في السوق الايرانية. هنا يحاولون استغلال بعض المسائل القانونية التي تحمي شركاتهم من العقوبات، كذلك إيجاد قنوات تمويل بعيدا عن الدولار. وقد يشجعون الشركات والمؤسسات الاوروبية الصغيرة والمتوسطة غير العاملة في الولايات المتحدة، للانخراط والعمل في السوق الايرانية، ووضع آلية مصرفية أوروبية لتنفيذ مشاريع التعاون مثل بنك الاستثمار الاوروبي، أو توقيع اتفاقيات تجارية ثنائية بين كل دولة أوروبية على حدة مع طهران. ومع ذلك تبقى الامكانات الاوروبية في هذا الجانب ضعيفة جدا. فعلى الرغم من أن الدول الخمس الكبرى، الموقعة على الاتفاق النووي، أعلنت دعمها لإيران في السادس من تموز/ يوليو الجاري في حقها بتصدير النفط والتجارة الدولية، والإبقاء على قنوات مالية فاعلة معها، وتطوير تغطية الائتمان عند التصدير، وتشجيع الاستثمارات ودعم المشغلين الاقتصاديين الذين يتاجرون معها، لكن هذه الدول لم تستطع تحديد الوسائل العملية لتطبيق هذا التعهد. وهو ما فهمه جيدا حسن روحاني حين قال، إنه يعتبر العرض الاوروبي غير كاف. كما أن وزير خارجيته قالها صراحة «يجب أن نرى في المستقبل ما إذا كان هنالك فارق بين ما يريدون فعله وما يمكنهم فعله».

في وقت أعلن فيه بعض المسؤولين في هذه الدول صراحة، بأنهم غير قادرين على الضغط على شركاتهم الكبرى التي بدأت بمغادرة السوق الايرانية، ما يعطي انطباعا بأن هذه الدول تسعى لابقاء طهران في الاتفاق أملا في تحقيق الهدفين السياسي والاقتصادي.

إن الخبراء القانونيين يذهبون إلى أن الاتفاق النووي الإيراني مع الدول 5 + 1 هو اتفاق يخص السلاح النووي والعتبة النووية الايرانية، وبالتالي من غير الممكن توسيعه ليشمل نقاطا أخرى تصر واشنطن على تضمينها إياه، وتتمنى أوروبا جر طهران اليها. كما أن الولايات المتحدة ترى أن الاتفاق ليس معاهدة دولية، بل هو اتفاق مغلف دوليا، ولم تكن هنالك ضمانات من الكونغرس له. وما بين هذه وتلك تبقى طهران يصرخ في رأسها صوتان، كل يرى التجربة الكورية الشمالية بمنظار مختلف. صوت يقول لنسلك طريق كوريا الشمالية التي وصلت إلى العتبة النووية فأجبرت ترمب على الجلوس معها. وآخر يقول إن ما دفع ترمب للجلوس مع الزعيم الكوري هو المبادرة الكورية بالتخلي عن السلاح النووي.

إذن دعونا نشرع بالاعلان عن قبولنا بتطوير الاتفاق ليشمل الصواريخ البالستية والتحركات في الإقليم، عندها سنحظى بالجلوس مع ترمب على طاولة حوار ننتزع منه اعترافا بأننا قوة إقليمية مقابل تنازلات محددة. ولكلا الرأيين أنصار ومؤيدون ومعارضون أيضا. ما يشغل بال صانع القرار السياسي الإيراني هو مراهنة ترمب على الداخل الإيراني وتأجيج الاحتجاجات بسبب الصعوبات الاقتصادية، التي بدأت ملامحها تظهر في بازار طهران الذي يعتبر بارومتر قياس مستوى الغضب. وهذا طريق غير مكلف بالنسبة للإدارة الأميركية.

 المصدر

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :133,411,256

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"