أكذوبة الدولة الفلسطينية في سيناء

محمد سيف الدولة

لقد وصل بنا التدهور في عصر كامب ديفيد أن استبدلنا خطر ((اسرائيل الكبرى من النيل الى الفرات)) بأكذوبة أن الفلسطينيين يريدون استيطان سيناء! هَزُلَت.

 

ان قيام السلطات المصرية بإخلاء الحدود الدولية لإقامة منطقة عازلة، بالإضافة الى قيامها بالتنازل عن الجزيرتين المصريتين تيران وصنافير للسعودية، قد دفع كثيرا من الناس الى تصديق ما يتردد عن تأسيس دولة فلسطينية على جزء من ارض سيناء بمشاركة ومباركة مصرية رسمية.

ولكنني رغم ذلك أكاد أقطع ان الحديث عن أى نوايا مصرية من هذا النوع، هو حديث عارٍ تماما من الصحة، فعلى عكس مما يشاع، لا يوجد في المنطقة من يقبل او يتبنى مثل هذا المشروع.

وهو ما يستدعى تمحيصه والرد عليه، لأن مثل هذه الادعاءات تدق إسفينا تاريخيا عميقا بين الشعبين الشقيقين في مصر وفلسطين، اذ تُظهر الفلسطينيين، على غير الحقيقة، وكأنهم يتربصون بمصر في انتظار أي فرصة سانحة للاستيلاء على جزء من ارضها الغالية. وهذا هو السبب الرئيس الذى دفعني لكتابة هذا المقال.

كما ان الموضوع بأكمله ليس سوى حيلة قديمة عمرها يزيد عن 10 سنوات، يستخدمها الفرقاء على الدوام للنيل من خصومهم السياسيين. كما يستخدمها اعداء الشعبين الشقيقين لإفساد العلاقة بينهما. فهي تنتمي الى حزمة الاكاذيب الشهيرة والشريرة التي تستهدف تبرير الغدر العربي الرسمي بفلسطين، مثل أكذوبة ان الفلسطينيين قد باعوا أراضيهم بأنفسهم، فلماذا نساعدهم في تحريرها؟!

ولقد عايشت شخصيا ومن قريب خدعة مماثلة عام 2012 اثناء العدوان الصهيوني على غزة.

والدوافع وراء الترويج لمثل هذه الشائعات يمكن رصدها او استنتاجها والتعرف عليها وعلى المستفيدين من اطلاقها.

كما اننا لسنا في حاجة الى فبركة اخبارا مغلوطة للطعن في نظام عبدالفتاح السيسي، ففي سياساته ما يكفي ويزيد مما يستوجب التصدى له ومعارضته.

وفيما يلى بعض التفصيل:

أولا: لماذا لن يقبل احد بها لا في مصر ولا في فلسطين ولا حتى في (اسرائيل)؟

اما في مصر..

  • فلا أحد، كائنا من كان، ولا حتى أكثر الحكام والانظمة استبدادا وتفريطا، بقادر فيما لو أراد، على تمرير مثل هذه التنازل عن ارض سيناء.

  • ولا يصح اتخاذ التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير المصريتين للسعودية مقياسا، لعدة أسباب أهمها هو ان المصدر الرئيس وربما الوحيد لشرعية النظام الذى يحكم مصر منذ عام 1973 وحتى يومنا هذا، كما يروّجون له ليلا نهارا، هو تحرير سيناء من الاحتلال الصهيوني، (بصرف النظر عن السيادة المنقوصة في سيناء بموجب المعاهدة)، وبالتالي يستحيل ان يفرطوا، حتى لو أرادوا ذلك، في شرعيتهم الوحيدة.

  • كما ان انتفاضة القوى الوطنية المصرية بعد التنازل عن تيران وصنافير، تبشر وتؤشر بأنه في حالة التفريط في سيناء، لا قدّر الله، فإنَّ المفرّطين سيواجَهون بحركة مقاومة شعبية واسعة لن تلتزم بالسلمية هذه المرة. مقاومة ستتصاعد ولن تتوقف حتى تسقطهم وتقدمهم للمحاكمة.

 

  • أضف الى ذلك ما تقوم به مؤسسات الدولة اليوم في سيناء من مطاردة للجماعات الانفصالية، فلو كانت تنوى التنازل عنها، لما كلَّفت نفسها كل هذا العبء والمخاطر والاموال والضحايا والشهداء، وكل هذه التنازلات لـ(اسرائيل)، ولقامت بتسليمها بقضها وقضيضها الى المعنيين بهذا المشروع ليؤسسوا عليها ما يشاؤون من اوطان بديلة.

واما عن فلسطين..

  • فإن الشعب الفلسطيني بكل فصائله وممثليه وسلطاته يرفضون منذ عقود طويلة مبدأ ومشروع الوطن البديل في الاردن، وفي سبيل ذلك ومع اصرارهم على تحرير ارضهم المحتلة قدموا مئات الألوف من الشهداء والمصابين والاسرى على امتداد ما يزيد عن 70 عاما. فكيف يقبلون بعد ذلك بوطن بديل في سيناء؟! فمن يسعى لترك ارضه والبحث عن وطن بديل لا يقاتل ويستشهد دفاعا عن وطنه الذى ينوي تركه وهجرته الى بلاد أخرى.

  • ثم ألم تكن غزة تحت الادارة المصرية لما يقرب من 20 عاما من 1949 إلى 1967، ومع ذلك لم يطلب فلسطينيو غزة الهجرة الى مصر أو التجنس بجنسيتها ولم يبحثوا عن وطن بديل عندنا.

  • أضف الى ذلك ما حدث في يناير 2008 حين اقتحم عشرات الالاف من اهالى غزة للحدود المصرية لشراء احتياجاتهم المعيشية من اسواق العريش نتيجة للحصار الذي فرض عليهم، وعادوا جميعا الى وطنهم وبيوتهم بعد ساعات قليلة، فلم يهرب احدا منهم او يطلب اللجوء او الاستيطان او التجنس في مصر.

والامثلة كثيرة.

واما عن العدو الصهيونى المسمى بـ(اسرائيل) فيستحيل ان يسمح بتأسيس أي كيان فلسطيني (معادٍ بطبيعة الحال) على حدوده وخارجا عن سيطرته، خاصة وهو لا يزال يطمع في الاستيلاء على سيناء في يوم من الأيام، كما قال مناحيم بيغين عام ١٩٧٩ بوضوح بعد توقيع اتفاقية السلام ردا على منتقديه بالتفريط في سيناء وهى جزء من ارض الميعاد في الادعاءات الصهيونية، اذ قال "ان سيناء تحتاج الى ثلاثة ملايين يهودى اضافي لاستيطانها، ونحن لا نملك هذا العدد الهائل والفائض اليوم، لكن تأكدوا انه في الوقت الذى سيتوفر فيه هذا العدد فإنكم ستجدونها في حوزتنا في اليوم التالي."

ان (اسرائيل) تريد سيناء منطقة عازلة خالية من البشر، سواء كانوا مصريين او فلسطينيين، فتريدها منزوعة السكان منزوعة القوات والسلاح. فهذه هي طبيعتها ككيان استعماري متخصص في استيطان الاراضي الخالية.

ثانيا: هي حيلة قديمة كانت تستخدمها اجهزة الامن المختلفة لشيطنة الفلسطينيين لدى الرأي العام المصري، واتذكر انه اثناء عدوان "عامود السحاب" الصهيوني على غزة في 14 نوفمبر 2012 والذي توقف بعد ثمانية ايام بعد الضغط الشعبي والرسمي المصري، وكنت وقتها قريبا من الاحداث، فوجئت بشائعة أطلقتها اجهزة الدولة العميقة بأن الفلسطينيين بدأوا بالفعل باستيطان سيناء، وهو ما كان كذبا بواحا.

 قامت جريدتا "الوطن" و "المصري اليوم" بإيعاز من الأجهزة الامنية، بفتح الدفاتر القديمة واستخراج ورقة كان قد قدمها الجنرال جيورا ايلاند الرئيس السابق لمجلس الامن القومى (الاسرائيلي) عام 2009 يطرح فيها ضم جزء من سيناء الى غزة مقابل منح مصر مساحة مماثلة في صحراء النقب. وهي ورقة قديمة قُتِلَت بحثا ونقاشا ايام مبارك، وحين لم تجد من يقبل بها أو يتبناها او يتخذها على محمل الجدية حتى في (اسرائيل)، انتهى بها الحال الى ارشيف المهملات. ولكن مع ذلك قامت الجريدتان بإعادة نشرها على نطاق واسع في وقت متزامن مع العدوان الصهيوني على غزة عام 2012، وسط حملة شعواء تستهدف شيطنة الفلسطينيين وتتهمهم بالطمع في ارض سيناء، من اجل التشويش على التضامن المصري غير المسبوق مع الشعب الفلسطيني.

وفي ذات حملة الشيطنة تم حينها توظيف كارثة اصطدام حافلة مدرسة بأحد القطارات بمحافظة اسيوط في 17/11/2012 ووفاة ما يقرب من 50 طفلا جراء الحادث، واستخدامها في المزايدة على من يدعمون الفلسطينيين ضد العدوان الصهيوني، بأن الاولوية هى التضامن مع اطفال اسيوط واهاليهم. وكأن هناك تناقض بين التعاطف مع الضحايا في مصر وفلسطين وفي كل مكان في ذات الوقت!

ثالثا: من يطلق هذه الشائعة ولماذا؟

ومنذئذ، كلما فتح أحدهم أو بعضهم هذا الملف القديم المتهافت وحاول الاستشهاد بمشروع جيورا ايلاند، أسارع الى البحث عمن يريد توظيفه في صراعاته مع خصومه السياسيين.

وبعد استبعاد واستثناء كل الوطنيين المصريين القلقين من تكرار ما فعلته السلطة في تيران وصنافير، فان هناك عديد من الاطراف التي قد تستفيد من انتشار هذه الشائعة:

فهناك، اولاً، من يريد افساد وضرب العلاقات الحميمة والتاريخية بين الشعبين المصري والفلسطيني، وعلى رأسهم بالطبع الصهاينة وحلفائهم في مصر وفلسطين.

وهناك، ثانياً، السلطة الفلسطينية بقيادة ابو مازن التي تسعى دائما الى شيطنة فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة وافساد علاقتها مع مصر والمصريين.

وهناك، ثالثاً، من يرى ان طرح هذا الموضوع الان قد يساعد على قبول الراي العام المصري لأي تسوية أميركية/ صهيونية حتى لو كانت بدون القدس وبدون نصف الضفة الغربية طالما ابتعدت عن سيناء وارضها.

وهناك، رباعاً، بالطبع الجماعات الانفصالية في سيناء، التي تريد ان تنزع الشرعية عن جهود الدولة لاسترداد سيادتها المهدورة هناك بسبب القيود الامنية في اتفاقيات كامب ديفيد، من خلال الترويج لأكذوبة ان الجيش يريد السيطرة على سيناء تمهيدا لتسليمها الى (اسرائيل) وأميركا لتقوما بتوطين الفلسطينيين فيها.

وهناك، خامساً وأخيراً، ممن يعارضون السيسي، من يوظف لذلك كل الادوات والاساليب والاخبار والشائعات حتى لو لم تكن حقيقية.

الى هؤلاء الأخيرين، اوجه كلامي في النقطة التالية والاخيرة.

رابعا: المعارضة الحقيقية لا تفبرك الشائعات وانما تمحصها:

اما عن المعارضين لعبدالفتاح السيسي، وانا منهم، فان هناك قائمة طويلة من الأسباب الحقيقية لرفض ومعارضة نظامه وسياساته:

  • على رأسها انه تلميذ نجيب وعضو اصيل في جماعة كامب ديفيد، وموقفه شديد السلبية من فلسطين وقضيتها ومقاومتها، ناهيك عن انه قام بتعميق وتوطيد علاقته بالصهاينة الى درجة غير مسبوقة، وصفتها في أكثر من موضع بالعصر الذهبي للعلاقات المصرية (الاسرائيلية).

  • وكذلك قام باخلاء الحدود الدولية لإقامة المنطقة العازلة التي كانت (اسرائيل) تطالب بها منذ سنوات طويلة. وكان مبارك نفسه يرفضها. (راجع مقال اخلاء سيناء مطلبا اسرائيليا).

  • وأيضا قيامه بالتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير المصريتين للسعودية، ضاربا عرض الحائط بأحكام الدستور وبالأمن القومي المصري وبالغضب الشعبي وبحكم المحكمة الادارية العليا.

  • ثم قيامه بالارتداد على ثورة يناير، واجهاض كل مكتسباتها والعصف بالحقوق والحريات والزج بكل من شارك فيها في السجون والمعتقلات لا فرق في ذلك بين مدني واسلامي.

  • وكذلك ملف السياسات الاقتصادية والخضوع لتعليمات نادي باريس وصندوق النقد الدولي، التي أدت الى مزيد من افقار الفقراء وضرب دخول ومدخرات غالبية المصريين ودفع قطاعات واسعة جديدة من الطبقة المتوسطة الى مراتب الفقر.

والقائمة تطول.

ومع وجود كل هذه التناقضات ومبررات ودوافع التصدى والمعارضة، فاننا لسنا في حاجة الى اختراع وتلفيق قضايا غير حقيقية، فالحقيقة تكفي وتزيد. كما أن التلفيق او الاستسهال في نقل اخبار غير صحيحة يفقدنا مصداقيتنا لدى الرأي العام، وهي الشيء الوحيد الذى تبقى لنا بعد ان تم تجريدنا من كل أدوات الفعل والتأثير والتعبير، انها مصداقية ثمينة وعزيزة علينا ان نصونها ونحرص عليها.

ولنختتم هذه السطور بالتأكيد مجددا على ان اشقاءنا في فلسطين لا يطمعون في ارضنا وانما في دعمنا لنضالهم وهم يقفون وحدهم في مواجهة العالم أجمع.


comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :133,411,699

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"