جبرا ابراهيم جبرا: الفنان والروائي والمترجم

عبدالواحد لؤلؤة

أولئك هم الرواد، الذين أمدّوا الحياة الثقافية في بلادنا بنسغِ حياة أنعش ما تضاءل منها وبعث الحياة في ما غيَّبَهُ السُّبات. أقلِّبُ الطرفَ يميناً وشمالاً، هذه الأيام، فلا أرى منهم أحدا. بل «إني لأفتَحُ عيني، حين أفتحُها/على كثيرٍ، ولكن لا أرى أحدا».

أين كبار شعراء الخمسينات؟ أين النحّاتون والمثّالون والرسّامون والروائيّون والمسرحيّون وأصحاب العمارة؟ ليس من عرفتُهم في «بغداد الأزَل، بين الجِدّ والهَزَل» بعبارة «آخر المرحومين» يوسف العاني، وحسب، بل في بلادنا العربية بين الخليج الثائر إلى المحيط الهادر، جيئةً وذهوباً؟ ولستُ متشائماً، ولا حتى «متشائلاً» بل ضائعاً، يبحث عن قشةٍ علَّه يطفو، ولو إلى حين. وليس أمامنا اليوم، حقاً وصدقاً، سوى اجترار الذكريات عن ماضٍ كان لنا يوماً، نعِمنا فيه، ولم نكن نقدّر تلك النعمة. واضيعتاه!

وإذ يسير هذا الشهر الأخير من السنة إلى نهايته، لا أستطيع منع نفسي من تذكّر خمسينات القرن الماضي، يوم كان العراق يموج بالشعراء، بدءاً من دار المعلمين العالية ببغداد، مروراً بشعراء النجَف الذين يبدأون مسيرتهم الثقافية مع كتاب «نهج البلاغة». فإذا رغبتَ في اقتناء نسخة، ما عليكَ سوى المرور بسوق السراي حيث أصحاب المكتبات من أهل النجف، في الغالب، تسأل عن نسخة من «نهج البلاغة» فيتناولها صاحب المكتبة من أحد الرفوف دون أن ينظر إلى ما يتناول. كل أولئك «الورّاقين» يمسك الكتاب، أي كتاب، كأنه كتاب مقدس. ثم يبدأ حديثا عن هذه الطبعة واختلافها عن سابقاتها، حديثا يتكرر مع كل كتاب تسأل عنه.

هل بقي شيء من ذلك كله؟ كانت المؤتمرات الأدبية، امتداداً إلى سبعينات القرن الماضي وحتى آخره، تحمل إلى بغداد كبار الشعراء العرب وأدبائهم، فتعرّفنا على الكثيرين منهم، وكان التقارب، والمثاقفة. ماذا تبقى من ذلك؟
في يوم 12/12/1994 غادرنا إلى عالم الخلود الأديب الفلسطيني ـ العراقي جبرا إبراهيم جبرا، الأكاديمي، الفنّان، الروائي، المُترجِم، راعي المواهب الشابة، موجّه أنشطة الشعراء والرسّامين والنحّاتين والكُتّاب من كل «حَمَلةِ الأقلام». لا أعرف أحداً من تلك العِترة الطيّبة لم يقصُد جبرا طلباً لنصيحة حول ما يكتب أو يرسم أو ينحت. يكتب مقدمة لشاعر أو روائي هنا، ويقرأ كتاباً لحديث عهد بالكتابة ويصحِّح ويُصَوِّب و«يُعدّل ويبدّل» والكاتب الناشئ سعيد بهذا وينقلب إلى أهله مسرورا. لا أدري كم منّا كان في طوقه أن يتذوَّق اللوحات الفنية في معارض الرسم الكثار لولا شروح جبرا وتعليقاته. بل من كان بوسعه «استيعاب» ما تبقى من روائع جواد سليم في ساحة التحرير، دون كتاب جبرا!
جاءنا إلى بغداد في خريف 1948، يحمل على كتفه صليب القدس، بدءاً من «طريق الآلام» وما كان يُدرك أن الرحلة ستطول.

بعد 10 سنوات يكتب في ما كتب من «شعر حُرّ» يخلو من الوزن والقافية في الشعر التراثي، مما بدا لنا يومها «تجاوزاً على التراث» لكنه فسّر لنا بعد ذلك هذا النوع الجديد علينا من الكتابة الأدبية، التي سمّاها أمين الريحاني، في مُغتَرَبه وراء البحار، عام 1911، باسم «الشعر المنثور» وليت أهلنا عبر القرون حافظوا على تلك التسمية، بدلاً من الضياع في معاني «الشعر الحر». كتب بعد 10 سنوات «عشرُ سنين من السفر/عشرُ سنين شيّبتني». وهذه «تورية» لأن الرجل «ما وَخَطَهُ المشيبُ» حتى العقد الأخير من القرن الماضي. يوم وصل الينا ما كان قد بلغ الثلاثين من العمر، لكنه جاء يحمل الماجستير في الأدب الإنكليزي من كمبرج العريقةِ، مع ثروة من الثقافة في الفن من رسم ونحت وموسيقى. تجمّع حوله الحواريّون، والكلُّ يتعلم منه، ويسير في طريق أشار بها إليه. فكان الشعراء وكتّاب القصّة والرسّامون والنحّاتون يسعون إليه سائلين النُصح والتوجيه، فيلقاهم هاشّاً باشّاً، «كأنك تُعطيه الذي أنتَ سائِلهُ».

كانت «دار المعلمين العالية» ورَبيبتها «معهد الملكة عالية» للبنات موئل الدراسات الأدبية، قبل تأسيس كلية الآداب عام 1950. كان «الأستاذ الجديد» كما كنا نسمّيه، يدرّس ويحاضر في الآداب الأوروبية والفنية من رسم ونحت وموسيقى في هذين المعهدين، وفي تجمّعات ثقافية أخرى. أسس في العالية نشاطاً فنياً في «المَرسَم» ثم في كلية الآداب. وفي عام 1951 بالأشتراك مع الرسام والنحات الكبير، جواد سليم، «جماعة بغداد للفن الحديث»، التي أشاعت ثقافة فنية ببغداد بما قدمته من معارض ومحاضرات عامة.

وفي «نَزل السيّدة أمل» القريب من «مقهى البرازيلية»، موئل صفوة الشعراء والفنانين في بغداد الخمسينات، ترجم جبرا فصلين من كتاب جيمس فريزر بعنوان «الغصن الذهبي» (1900) هما الفصلان عن «أدونيس» وآلهة الخصب في المعتقدات الرافدينية القديمة، مما أثرى الأعمال الشعرية في الغرب في حديث أساطير الخصب والنماء، مما كان حريّاً بأبناء الرافدين والبلاد العربية أن يفيدوا منه في أعمالهم الشعرية والفنية.
أصر حسين مردان عامل الطين من بعقوبة، ذو الموهبة الشعرية النادرة، التي أوحت إليه أن يسعى ليكون «بودلير العراق»… أصر أن «يبيّض» مخطوطة أدونيس «ليدفعها» إلى المطبعة. ثم صدرت من «أدونيس» طبعة أفضل عام 1957 من بيروت. وبعد ترجمة «أدونيس» توالت ترجمات كتب مهمة عن الإنكليزية، مسرحيات شكسبير، سبعة منها، ودراسات في الآداب والفنون زادت عن ثلاثين كتابا مترجماً، كانت الغذاء الفكري النفسي للجيل العراقي والعربي على امتداد القرن العشرين، وما تزال.
إضافة إلى ترجمة الآداب عن الإنكليزية، أصدر جبرا عدداً من القصص القصيرة والروايات، غدت مثالاً موجِّها لناشئة الكتّاب والروائيين. من هذه الروايات «السفينة» و«البحث عن وليد مسعود» والرواية العجيبة بالاشتراك مع عبدالرحمن منيف «عالم بلا خرائط». هذه رواية لا أعرف لها مثيلاً في العربية. لقد رافقتُ مسيرة كتابة هذه الرواية في مراحلها الأولى، ولما صدرت كاملة لم أستطع، الا بصعوبة بالغة، أن أتبين أسلوب هذا الروائي من زميله، وأنا أعرف الإثنين معرفة جيدة، وأعرف أسلوبهما في الفن الروائي.
كان للأستاذ جبرا أثر كبير في تطوّر شاعرية بدر شاكر السيّاب، لكنه لا يشير إلى ذلك صراحة، ولا في كتاباته، وهو من كرَم النفس عند الرجل. أنا أعرف عن كثرة زيارات بدر لأستاذنا جميعاً. يسأل عن الشعراء الإنكليز بخاصة وعن مسرحيات شكسبير، واستعار مجموعة إيدث سيتويل ولم يُرجِع الكتاب! يستوعب ما يسمع، ويحيله إلى عنصر جديد في شعره. ويعرض بدر كثيراً من قصائده على أستاذنا، وبخاصة من أوائل الخمسينات فصاعداً، وينعم بنصائحه ورعايته. فلما ثقُل المرض على بدر، توسط له أستاذنا ببعثة دراسية إلى جامعة «دَرَمْ» البريطانية علّه يجد علاجاً لمرضه. لكن الشاعر لم يقاوم الغربة عن محيطه العراقي، علاوة على عدم حصوله على تحسّن في حالته الصحية، فعاد إلى العراق، يردِّدُ قصيدة «دَرَمْ، بنفسيَ مما عراني بَرَمْ».

كانت توجيهات جبرا وتشجيع الأدباء والفنانين في عراق الخمسينات لا تقتصِّر على المحيط الجامعي. فلدى عودته من سنتين للدراسة والبحث في جامعة هارفرد 1952 ـ 1954، تلقّفته «شركة نفط العراق» ليؤسس لها ركناً ثقافياً، يخفف من «غلواء» أحاديث النفط وتجارته. أسس الرجل مجلة «العاملون في النفط» وراحت المجلة الشهيرة تنشر قصصاً وقصائد وصوراً لكثير من أدباء العراق وفنانيه، ورتّب أن تُدفع لهم مكافآت غير قليلة، في تلك الأيام. واستقطبت المجلة أدباء من بلاد عربية أخرى، نشرت لهم بعض أعمالهم. وبذلك توسّع تأثيره في التوجيه وتشجيع المواهب.
على طول صحبتي للرجل، في بغداد، وتواصُلي معه بالرسائل والهاتف، قبل شيوع الكمبيوتر، لم أجده يوماً يشتكي من مرض، سوى حالة رشح عابرة، أو قريباً من ذلك. ولكنه بعد رحيل رفيقة عمره بقي سنتين يشكو من آلام في ذلك «الخافق المعذَّب». وزاد من آلامه الوضع المأساوي الذي خيَّم على العراق في سنوات الحصار. لم يستطع ذلك القلب الكبير تحمل فقدان رفيقة العمر عام 1992 «وإذا المنية أنشَبَت أظفارها /ألفيتَ كلّ تَميمةٍ لا تنفعُ» وآخر ما يصوِّر ذلك التعب النفسي والفكري عند الأديب الكبير مجموعة من الشعر الحرّ بعنوان «متواليات شعرية» نُشرت عام 1996 ببيروت، بعد رحيله بسنتين.

 

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :134,150,012

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"