من اختار ترمب لخوض الحرب التجارية مع الصين؟

مثنى عبد الله

قال الرئيس الأميركي دونالد ترمب في حديقة البيت الأبيض قبل أيام قليلة، إن الحرب التجارية التي يخوضها مع الصين ليست حربه (هذه حرب تجارية كان يجب أن يخوضها منذ وقت طويل رؤساء آخرون). ثم نظر إلى السماء فاتحا ذراعيه وقال (أنا المختار)، بمعنى أن الله هو الذي اختاره.

بهذه الفلسفة الطوباوية، يمضي الرئيس الأميركي في حرب خاسرة للجميع، فالصين هي قاطرة النمو الاقتصادي العالمي، والصراع معها من هذا الطريق ستكون له مردودات سلبية على الاقتصاد العالمي ككل، لكن معرفة أسباب المشكلة من وجهة النظر الأميركية، تلقي الضوء على الحالة الراهنة، فالدوافع الأميركية تقوم على مسألتين أساسيتين، الأولى أيديولوجية حيث أن الفريق الذي أوصل ترمب إلى السلطة، وكذلك مستشاريه الاقتصاديين يتشاركون معه العداء للصين، ويريدون تصفية حسابات معها تعود إلى ثلاثين عاما ماضية، ويؤكدون على أنها لا تحترم المنافسة الشريفة. أما العامل الآخر فهو العامل الاقتصادي، القائم على انعدام التوازن في ميزان التجارة، الذي يشكل خسارة كبرى للولايات المتحدة، والذي تعززه اتهامات خطيرة لها في مسألة سرقة حقوق الملكية الفكرية والتكنولوجية. ولتعديل هذه المعادلة غير المتوازنة من وجهة النظر الأميركية، فإن ترمب يريد أن تستثمر الصين وتنتج جزءا من بضائعها في أميركا، في محاولة منه لسد العجز التجاري في الميزانية، الذي وصل إلى 621 مليار دولار في العام الماضي.
وعلى الرغم من الرسوم الكمركية التي فرضها ترمب على البضائع الصينية الواردة لتحسين القدرة التنافسية للبضائع الأميركية مقابل السلع الصينية، فإن الولايات المتحدة فشلت حتى الآن في خفض العجز التجاري مع الصين. فهذا الإجراء يحتاج إلى فترة زمنية طويلة نسبيا لتحقيق نتائج مرجوة، ومن ناحية ثانية فإن المستهلك الأميركي سيواصل شراء السلع الصينية، لأنه مهما فُرضت عليها رسوم كمركية فستظل الأرخص في السوق، وبذلك فإن الإجراء الصحيح هو أن تكون هنالك إصلاحات هيكلية داخل الاقتصاد الأميركي، لا حروبا تجارية مع الآخرين، ثبت أنها تعود بنتائج كارثية على الاقتصاد الأميركي نفسه. فخلال الاسابيع القليلة الماضية أعلن ترمب رفع الرسوم المفروضة على السلع الصينية الواردة إلى الولايات المتحدة، فردت الصين بتصفير الواردات الزراعية من أميركا. فشكّل ذلك ضربة قاصمة لقطاع الزراعة، حيث أن 70% من فول الصويا، على سبيل المثال، تستورده الصين، ما أجبر مزارعي هذا المحصول على حرقه لعدم وجود مشتر له. وفي الوقت الذي تراجعت فيه الصادرات الصينية إلى أميركا بنسبة 2.5%، تراجعت الصادرات الأميركية إلى الصين بنسبة 25%، لان الصين سوق استهلاكي كبير نسبة لعدد السكان في هذا البلد.
وهنا لابد من الإشارة إلى موضوع مهم جدا وخطير بالنسبة للولايات المتحدة، فالصين اليوم تمثل أكبر تحد اقتصادي في تاريخ الولايات المتحدة، فحتى عندما كان الاتحاد السوفييتي على خريطة العالم السياسية، لم يشكل آنذاك تحديا اقتصاديا لأميركا. كان الناتج القومي للاتحاد السوفييتي هو فقط 500 مليار دولار في كل جمهورياته مجتمعة، في حين كانت الولايات المتحدة لديها 5.6 ترليون دولار كناتج قومي. إذن لم يكن هنالك أي مجال للمقارنة بينهما، في حين تقف الصين اليوم الدولة الثانية في الناتج القومي، ومرشحة لأن تكون القوة الاقتصادية الأولى في العالم. كما لا يمكن التغاضي عن مشروع الحزام والطريق، كأحد العوامل الساندة في خوض الحرب التجارية، فالولايات المتحدة تجد نفسها لا مصلحة لها إطلاقا فيه، وتقييمها له على أنه واجهة لخلفية تضمن استيلاء الصين على بحر الصين والجزر الصينية. كما تربط اقتصاديات الدول التي يمر بها بالاقتصاد الصيني، من خلال إغراقها بالديون الصينية، وكذلك تهديد الاتحاد الأوروبي من خلال جذب اليونان وإيطاليا إلى المشروع.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال التغاضي عن الأهداف السياسية التي تقف أيضا وراء هذه الحرب. فقد تعمّد ترمب إعلان الحرب التجارية ضد الصين بهدف تحريك ملف كوريا الشمالية، في حين فهمت الصين اللعبة، وباتت أيضا تتلاعب بهذا الملف ضده، لذلك نرى كلما يحصل تصعيد اقتصادي تتحرك كوريا الشمالية لإطلاق تجارب الصواريخ البالستية يوما بعد يوم. كما أن هنالك اعتقادا في دوائر صنع القرار الأميركي من أن الصين تذهب بعيدا في المجال الاقتصادي، ليس بمعزل عن التحرك العسكري، خاصة في الفترة الاخيرة التي شهدت عقد صفقات أسلحة، وقيام تحالف مع روسيا، ما يهيئها عمليا لطرح جميع الاوراق على الطاولة.
وفي المجال السياسي أيضا تبرز الطموحات الانتخابية للرئيس ترمب، فملف تصحيح المعادلة التجارية مع دول كثيرة من ضمنها الصين، كان أحد التزاماته في الحملة الانتخابية التي أوصلته إلى سدة الرئاسة، واليوم هو يريد إنهاء هذا الملف قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة، لتحقيق نصر اقتصادي، باعتباره الرئيس الأميركي الذي فرض على الصين اتفاقا تجاريا عادلا، بالاضافة إلى شعار (أميركا أولا) الذي كي يتحقق، لابد أن تضمن التفوق الاقتصادي على العالم، كي تبقى قوية. كما أن أمن الحلفاء نقطة مهمة جدا في استراتيجية الحرب التجارية ضد الصين، فقد كادت أن تضع الأخيرة يدها على نفط الشرق الاوسط، ما يُعرّض حلفاء الولايات المتحدة، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، إلى الضغوط السياسية المتولدة من نقص إمدادات الطاقة، وهو في الحقيقة الموقف نفسه، الذي واجهته أميركا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، عندما حاول الاتحاد السوفييتي أن يضع يده على هذه الثروة في الشرق الاوسط.
ويجب أن لا يغيب عن البال، أن هنالك مخاوف أمنية بسبب اختلاف النظام السياسي في كل من الصين والولايات المتحدة، فالصين تحكمها نظرية الحزب الواحد، وهي تروم الترويج لأسلوبها في التنمية والإصلاحات الاقتصادية، في ظل هذا النظام السياسي، في حين تحاول الولايات المتحدة الترويج لنظامها الديمقراطي وقيمها الليبرالية، حسبما يدعون. إن الخسارة من جراء هذه الحرب ماضية في نتائجها الكارثية على الجميع، ولا أحد بمنأى عنها. فقد تكبدت الصين واليابان خسائر جمة في الأسهم بسببها. كما برزت أوروبا كأحد الضحايا في هذا الصراع التجاري، وتبقى الولايات المتحدة هي الخاسر الاكبر من جراء الحرب التجارية، التي اختارها ترمب لنفسه ولم يختره أحد لها.

نشر المقال هنا

comments powered by Disqus
خدمة RSS LinkedIn يوتيوب جوجل + فيسبوك تويتر Instagram

عدد الزوار :133,410,535

تطبيق الموبايل

-->

آخر الزيارات

مساحة اعلانية

الأكثر قراءة

الأكتر مشاهدة

تابعنا على "فيس بوك"